الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

الأصوليون.. وفتنة نوتردام

ذات مرة كتب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين واصفاً قلوب البشر ونفوسهم ومشبهاً إياهم بالمعادن، فقال: «إن النفوس مثل المعادن،والمعادن منها ما يعلو على كل صدأ، ومنها أيضاً ما يعلو عليها كل صدأ»، والقارئ اللبيب يفهم الفارق بين المعنيين.

أظهرت كارثة حريق كارتدرائية باريس الشهيرة «نوتردام» معادن الكثير جداً من الدول والأفراد، المؤسسات والهيئات، فعلى الرغم من الطريق الطويل الذي بذل من أجل تهيئة أرضية حوارية إنسانية، أرضية للوئام والسلام عوضاً عن الكراهية والخصام، إلا أن الساعات وليس الأيام التالية للحريق أظهرت أن هناك فريقاً لا يزال يحمل الكراهية المجانية، وأنه غير قادر على العبور إلى دائرة التسامح والتصالح، تلك التي يبغيها أصحاب القلوب الطيبة.

حين كانت النار مشتعلة في سقف وبرج الكاتدرائية، ووقت كان الفرنسيون يكافحون النار لإنقاذ معلم تاريخي إيماني وإنساني، كانت أصوات من الأصوليين والجهاديين تستغل وسائط التواصل الاجتماعي للتعبير عن مكنونات صدورهم، فكتب أحدهم يقول إنه ينبغي الإسراع بمساعدة رجال الإطفاء من خلال سكب المزيد من البنزين على ما تبقى من الكاتدرائية كي تأتي النيران عليها دفعة واحدة.


ذلك الصوت الكاره جارتْه عشرات الأصوات المشابهة، بل أكثر من ذلك فإن الكاميرا وصورتها لا تكذب ولا تتجمل، رصدت عدداً من هؤلاء يرفعون أصابعهم بعلامة النصر، ويفغرون أفواههم بابتسامات التشفي، في حين وقف الفرنسيون على الأرصفة يبكون ويرتلون داعين الله لإنقاذ هذا المعلم الأثري الكبير.


للكراهية دول وحواضن لا تواري أو تداري الشر المجاني الذي تبثه حول العالم، وفي المقدم من تلك الدول جزيرة الشيطان قطر، فقد كتبت صحفها ونشرت مواقعها وكتائبها الإلكترونية صباح الحادث المؤلم، تقول..«لقد سقطت» معلمة الغرب «بفتح الميم، تلك التي يزورها 30 ألف شخص يومياً».

يا الله .. أإلى هذه الدرجة من الكراهية تصل الأمور؟ مهما كان في المشهد المؤلم الذي رأيناه من السلفيين وجهاديين، من الأصوليين والانتحاريين، بل من أولئك المؤلفة قلوبهم عبر نهر السين، إلا أن الذين رفضوا الفتنة هم الأعلون، بل أثبتت الحادثة أن فرصة تضامن القلوب والعقول النقية والتقية أوسع وأكبر من تلك التي لا تعرف إلا طريقها للتعصب والتزمت القاتلين.

أظهرت القيادة الإماراتية الكثير جداً من مظاهر التعاطف والمودة الحقيقية غير المنحولة، وكان التعاطف الرسمي والشعبي الإماراتي دلالة على أن الدولة والقائمين عليها إنما يأخذون قضايا الحوار والجوار مأخذ الجد، وأن ما شهدته الإمارات في فبراير الماضي من زيارة للبابا فرنسيس وشيخ الأزهر، لَهُو مسيرة مودة حقيقية تمضي فوق كل الأحقاد، وتقفز على الذين يزرعون الشوك في طرقات البشر.

من بين الأصوات الطيبة التي ارتفعت وقت الحريق، استمعنا إلى صوت الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر الذي كتب تغريدة باللغات الثلاث العربية والإنجليزية والفرنسية، قال فيها:«أشعر بالحزن تجاه حريق نوتردام في باريس، هذه التحفة المعمارية التاريخية. قلوبنا مع إخواننا في فرنسا، لهم منا كل الدعم».

أبناء إبراهيم إلا الفئة الضالة أظهروا تعاطفاً أخوياً حقيقياً، فقد أرسل أحد حاخامات باريس حاييم كورسيا رسالة إلى رئيس أساقفة باريس، قال فيها: «إن المؤتمر اليهودي العالمي متضامن مع الشعب الفرنسي والكنيسة الكاثوليكية».

أما بقية الأصوات المعتدلة والصادقة التي ارتفعت داخل العالمين العربي والإسلامي، فربما يضيق المسطح المتاح للكتابة عن الإشارة إليها، وكلها تؤكد أن هناك ركباً لم تجثُ لبعل الكراهية والانتقام.