الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

جمهورية القراءة

هي جمهورية ديمقراطية بامتياز، لا تسمع إلا لخياراتها الفردية والجماعية.. القارئ فيها يقرأ ما يريد، وليس ما يُفرض عليه، يحلم بأن يكون حراً في اكتشافاته وأحاسيسه العميقة.

يحدث مثلا أن يحب القارئ كاتبا لا يسمع به أحد.. هو من اختاره لأنه شعر في لحظة من اللحظات أنه الأكثر تعبيرا عن انشغالاته الداخلية، وقد يذهب إلى أبعد من ذلك، فيحبُّ كاتباً جديداً يكتب لأول مرة، برز عن طريف الفيسبوك، وهو ثمرة طبيعية لعصر الوسائط الاجتماعية.. نشر روايته في فصول صغيرة في الوسيلة المهمة، فذهب القراء نحو روايته التي تحصلت على قدر مرعب من اللايكات.. العالم يتغير بسرعة، وعلينا أن ندرك ذلك، ونعرف كيف نواجه هذا التحول ليس بالإقصاء المتزايد لأنه غير مفيد.

لهذا يجد القارئ نفسه بامتياز في هذه الجمهورية لأنها المعبر الطبيعي والعصري عن انشغالاته.. جمهورية غير مقدسة ومتحركة في الزمان والمكان، فهي بين الرؤية القرائية العقلانية التي تتعامل مع النصوص الإبداعية الروائية تحديدا، كفعل ثقافي وبتبصر تحليلي عندما يتوفر، وبين الرؤية العاطفية التي يتماهى فيها القارئ مع كاتبه لدرجة نكران الذات، ويصبح الكاتب مقدساً من الناحية القرائية وكأن البشرية لم تنجب إلا ذلك الكاتب الذي أصيب القارئ به.


لكن هذه الرؤية متحركة، مرتبطة بدرجة معينة من الوعي، إذ عندما يتقدم الإنسان في السن تتغير معاييره القرائية وتصبح أكثر تعقلاً، فهو يتعلم في هذه الجمهورية وفق خياراته التي لا تفرض عليه من الخارج.. الكثير من القراء تحولوا جذرياً مع الزمن في خياراتهم القرائية، بل أصبح حبهم الأول مجال تنكيت وتهكم: كيف ذهبوا نحو ذلك الكاتب أو تلك الكاتبة بذلك القدر من السذاجة؟. لهذا استعارت هذه الجمهورية فكرة كونها جمهورية حرة ديمقراطية، وبلا حدود ولا مواقف مسبقة، عالمية الهواجس.. تستمتع بميسو الفرنسي، كما تحب باولو كويلو البرازيلي، وقد تدخل في غرائب موراكامي الياباني، ولا شيء يمنعها من أن تحب أو لا تحب نجيب محفوظ أو عبد الرحمن منيف؟ لا فرق لديها بين من يتحدث عن السعادة أو عن الحرب أو الخوف، أو الحب. المهم أي نص يوفر المتعة لقارئه الذي بإمكانه أن يوقف القراءة ويضع الكتاب جانبا وقت ما يشاء، لا أحد يحاسبه في ذائقته وثقافته.


السؤال الصغير: هل حكم جمهورية القراءة بريء إلى كل هذه الدرجة؟ وهل هو بلا مؤثرات فوقية؟.. طبعاً لا، حيث إن هذه الجمهورية لا تنشأ في فراغ ولكن داخل دوائر تاريخية، إعلامية، أيديولوجية، نفسية، وسياسية، تدخل كمعيار سري في التقييم.. لا توجد ذائقة مستقلة في المطلق، وإلا لما ذهب القارئ منذ البداية نحو كتاب بعينه دون غيره، كما لا يوجد نص إلا بقارئ، فهو الامتداد الطبيعي لفعل الكتابة الذي سيظل عالماً أخرس بدون القراءة، التي تخرجه من دائرة العزلة إلى النور.