الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

صنعة الدولة.. ورجالها

في الدول النامية ومجتمعاتها تلعب مؤسسات الدولة دوراً محوريّاً واستراتيجيّاً في كامل خضم التنمية والحوكمة، وما يلحق به، بحيث يمكن القول: إن من المُستبعَد حصول تنمية قوية في العالم المعاصر في دولة ضعيفة، مهما كانت قوة قطاعها الخاص أو علاقاتها التجارية أو ثروتها الطبيعية أو مواردها البشرية.. إلخ، الدولة القوية - أي قوية المؤسسات - شرط للتنمية.

وفي مثل تلك الظروف تظهر أهمية دور رجل الدولة، وهو يختلف اختلافاً عاماً عن السياسي، وما نعنيه بالاختلاف أن هذين دوران مختلفان، حتى لو لعبهما شخص واحد أحياناً (وتلك حالة قليلة الورود).

رجل الدولة يمكن أن يلعب هذا الدور ويكون المسمى واحداً - شخص صاحب مهارات ومعارف وأشغال محورية في العصر الحديث، يحترف عملية بناء الدولة (هيكلها ومؤسساتها) وإدارة دفّتها نحو غايات كبرى.


ذلك في حين يمكن أن نقول إن السياسي مُقاوِل قوى، يشتغل في تشبيك وتنسيق مراكز ومصادر قوى متمايزة، كيما تعمل نحو وجهة وأهداف مختارة.. وفق ذلك فالسياسي يمكن أن يكون سياسياً جيّداً إذا عمل نحو وجهة وأهداف طيبة، والعكس إذا كانت وجهته وأهدافه ذات مصالح ضيقة.


السياسي يحتاج لأن يكون جيداً في التنسيق وإقناع مراكز قوى مختلفة لأن تدعمه، وأن ذلك في عموم مصلحتها، في حين يشتغل رجل الدولة على صناعة الدولة اشتغال الحِرفي في حِرفَته.

وتاريخ المجتمعات النامية في العصر الحديث امتلأ حتى الآن بالسياسيين والسياسيّات، الصالحين والطالحين، المفكّرين وغير المفكّرين، وما جاد علينا سوى بالقليل من رجال الدولة (ذكوراً وإناثاً).

وفق هذه الظروف هنالك حاجة لمجال جديد من المعرفة والممارسة، هو «صَنْعَة الدولة»، وهذا المجال يتطلّب أكثر من الرؤية السياسية الجيدة والتحليل التاريخي الممتاز والنيات الحسنة، إذ يحتاج كذلك لمعرفة أدوات الحوكمة الحديثة، وطُرُق تفعيلها، وترتيب مؤسساتها بحيث تكتسب صفة التلقائية والاستدامة (بدون بيروقراطية قاتلة وهادرة للموارد)؛ وفوق تلك المعرفة، تحتاج صنعة الدولة لمهارة من نوع متميّز؛ مهارة لا تُكتَسب من مجرّد الدراسة، إذ تستدعي مستوى نادراً من القدرات القيادية التنظيمية، وربما حظاً من «الحدس» الموفّق.