الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

التأويل.. اللغم القاتل

أخطر وأعظم ما أنتج البشر ضمن آليات التفكير، هو التأويل، فقاموا من خلاله بتفسير كل ما يحيط بهم، الظواهر الطبيعية، الحالات النفسية والمجتمعية، ردود أفعالهم وأديانهم، فكانت النتائج عظيمة أعطت للإنسان فرصة أن يفسر العالم المعقد الذي لم يجد له أجوبة سهلة إلا من خلال التأويل، لكن التأويل كان أيضاً وراء جرائم كثيرة، إذا تم تلبيس الناس آراء لم يقصدوها، ودفعوا بسبب ذلك الثمن غالياً، أحياناً حياتهم.

الأمثلة كثيرة للأسف من بين التأويلات في المجال الأدبي والديني، رواية نجيب محفوظ: «أولاد حارتنا»، التي قتلت النص أو كادت، إذ تسببت في منعه، وجلبت مشكلات كثيرة لنجيب محفوظ كادت أيضاً أن تودي بحباته بعد الاعتداء عليه، ويبدو أن المتطرفين من الإسلاميين، وبالضبط الإخوان، جعلوا من التأويل ضالتهم، لضرب الأدب والحرية التعبيرية، ومنع نجيب محفوظ.

فقد أولوا النص وفق رغبتهم، واتهموها بأنه اعتدى على الذات الإلهية من خلال التأويل المغرض للرواية، جعلت الكاتب يرفض ذلك بشكل معلن، وطالبوا بمنع أولاد حارتنا، لأنها بحسب قراءاتهم، تمس بالنبوة والذات الإلهية على حد سواء.


شكوه للرئيس الراحل جمال عبد الناصر وضغطوا عليه حتى منع الرواية، قبل أن تنشر في دار الآداب، في بيروت. فقد رأوا في الرواية تصويراً مغرضاً ينتقد حياة الأنبياء والظلم الإلهي، منذ أن قرر الله طرد آدم من الجنة قبل أن يحتل الشياطين الأرض، ويعيثون فيها فساداً.


يبدأ (محفوظ) هذه الرواية بقصة شخص يدعى الجبلاوي – وهو الله – وأظن أنه استقى الاسم من كلمتين: الأولى جلّ جلاله والثانية من الجبل الذي يرمز إلى العلو والشموخ والرفعة.. كان كثير الحريم يسكن في بيت كبير فيه حديقة جميلة، ثم أنجب الجبلاوي أولادًا أكبرهم «إدريس» – وهو إبليس- لا حظ التشابه في الأسماء، الذي اعترض وإخوته على قرار والدهم في اختيار أخيهم أدهم – وهو آدم - ليدير الوقف تحت إشرافه.. وجاء اعتراض إدريس على هذا القرار، أولاً: لكونه أكبر الإخوة سنًا وله حقوق ينبغي ألا تهضم، وثانياً: لأنه وإخوته من أبناء هانم من خيرة النساء، أما أدهم فهو ابن جارية سوداء.. وواصل إدريس اعتراضه وصياحه حتى أغضب والده فطرده من البيت الكبير إلى الأبد، ليخرج إلى الأرض الواسعة.. الكلام لهم، وهو من تأويلهم منذ اللحظة الأولى كان التأويل مغرضاً.

القارئ للرواية بحيادية، يكتشف التأثيرات الدينية المتعددة اليهودية والمسيحية والإسلامية، وهي تأثيرات شبيهة بما حصل عند المعري أو دانتي أو غيرهما، لكن لا نية لدى محفوظ لتسفيه الأديان بقدر طرحه مشكلة السلطة عند الإنسان، التي تصبح بسرعة تسلطاً، ثم تتحول إلى أداة قمعية عندما تتجمع بين يدي فرد واحد، فيخترق كل الوثائق، والقوانين والدساتير ويجيرها لنفسه، فيتحول كل شيء إلى مجموعة أوراق لا قيمة لها عندما يكون الطغيان هو سيد الموقف.