الخميس - 18 أبريل 2024
الخميس - 18 أبريل 2024

فهم الواقع يحفظ الدين

لم يشدد علماؤنا المتقدمون في كتبهم المتعددة، ولا في أقوالهم المأثورة ـ رحمهم الله أجمعين ـ على قضية فقه الواقع، لأسباب كثيرة، من أهمها: أن واقعهم الذي عاشوه كان سهلاً وبسيطاً ورتيباً، بخلاف واقع الناس الذي يعيشونه اليوم، والذي يتبدل باستمرار، بفعل ثورات وطوفان المعلومات، والاكتشافات والابتكارات، وتقارب المسافات، وتلاشي الحدود الجغرافية، وكل ذلك يستدعي بالضرورة فقهاً وفقيهاً يفهم الواقع، ويستشرف المستقبل.
فقه الواقع، يعد أهم موضوع محوري في عملية الإفتاء الشرعي، التي تتألف من: فقه في النص، وفقه في الواقع؛ وقد عبّر عن ذلك بوضوح الشيخ ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه الشهير (إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/‏69)، حيث ذكر وقال: «وَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُفْتِي وَلَا الْحَاكِمُ مِنْ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ إلَّا بِنَوْعَيْنِ مِنْ الْفَهْمِ: أَحَدُهُمَا: فَهْمُ الْوَاقِعِ وَالْفِقْهِ فِيهِ وَاسْتِنْبَاطُ عِلْمِ حَقِيقَةِ مَا وَقَعَ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ حَتَّى يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا، وَالنَّوْعُ الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ فِي الْوَاقِعِ، وَهُوَ فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ ـ سبحانه وتعالى ـ الَّذِي حَكَمَ بِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ؛ فَمَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَعْدَمْ أَجْرَيْنِ أَوْ أَجْرًا؛ فَالْعَالِمُ مَنْ يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ ـ سبحانه وتعالى ـ وَرَسُولِه ـ صلى الله عليه وسلم».
فقه الواقع، الذي يسميه بعض الدارسين للدين فقهَ النوازل، أو فقه الأحداث، أو فقه الأولويات أو الفقه المعاصر، هو سبب من أهم أسباب حفظ أحكام هذا الدين؛ من أن يقوم أي أحد بوضعها في غير مواضعها، وتعبير واضح عن حسن فهم مقومات وخصائص الحياة المعاصرة، وقضاياها المستقرة، ومكوناتها المتغيرة، وكل هذا يعتمد على الانفتاح على ثقافة العصر، والمشاركة في الشؤون العامة للناس، ودوام المطالعة للفكر المتعلق بهذا الواقع، وأثره على دين الناس، وتدينهم، وعلى أحوالهم التي لم يوجد لها نظير ولا مَثلٌ فيما سبق؛ الأمر الذي يستدعى قيام العلماء الحكماء الأتقياء باجتهادات جديدة، وفتاوى رصينة، تساعد على تقدم المسلمين، وتحافظ على قبول الآخرين لهم، وإن تعاظمت الاختلافات بينهم، وبين من حولهم.