الخميس - 18 أبريل 2024
الخميس - 18 أبريل 2024

سؤال الكتابة

كلما استحضرت الكتابة وشجنها وهمومها وأفراحها أيضاً، انتابتني أسئلة كثيرة تتخطى الفعل ذاته باتجاه مساءلة إنسانية الإنسان التي تكبر وتصغير بالكتابة أيضاً.

كلما توغّلت هذه الأخيرة في أعماق الإنسان استخرجت من بحره غير المرئي كنوزاً ثمينة، وكلما تهاونت في جدوى الكتابة، أصبحت فعلاً بلا أفق، لأنها تكون قد خسرت رهاناتها الإنسانية منذ البداية.

الصعوبة الكبيرة، هي أننا كلما تساءلنا، تفرعت أسئلتنا حتى تصبح السيطرة عليها، شبه مستحيلة، فمثلاً: هل الكتابة هي هشاشتنا تجاه ما يحيط بنا ويصنع معنى الإنسان في قوته، وفي ضعفه، أي قدرته على تشغيل حساسيته الإنسانية في أقسى درجات الحياة واليأس؟ أم هي شيء أهون من هذه الأسئلة الفلسفية القلقة؟


كأن تكون الكتابة هي الفعل الفيزيقي المصاحب للكتابة، أي أن يتعود الإنسان على الجلوس على كرسي ويفكر ويسجل حراكه الداخلي عن طريق اللغة، ويتحمل معاناة هذا السجن الجسدي المؤقت.. السجن الخياري، الذي يشبه إلى حد كبير صخرة سيزيف الذي يصعد بها عالياً، قبل أن تنزل ويضطر إلى معاودة الكَرَّة حتى يفلح في الأخير في تثبيتها في القمة.


هل الكتابة هي أن تقبل بأن تسرق من عمرك بعض سنوات؟ فتتحول الكتابة إلى رديف لمهنة الحياة، بجمالها وهزاتها، وخيباتها القاتلة.

يمكنني أن أقول إن حياتي كتابة عندما يكون عملي كله كتابة.. في البيت، في الميترو، في النوم نفسه إذ علي أن أحل كل المعادلات الأدبية الخاصة بنص هو في طور النشوء، حيث تتداخل الحياة بالمتخيل الذي يشتغل في سرية كلية بقوة؟

خارج هذا وذاك، أليست الكتابة وسيلتنا القوية لمقاومة الاندثار القدري الصعب الذي يمنحنا حياة قليلاً ما نتخلى عنها، وحباً نصنعه على مقاسنا؟ أم هي مرتكزنا للهرب ليس فقط من جاذبية الكرة الأرضية، ولكن من جاذبية المرايا التي تصورنا أكبر من أحجامنا وبشكل مقلوب، ويسميه النفسانيون النرجسية؟

ما ترفضه الكتابة هو وهم العظمة والاكتفاء بوهم صغير هو من حق الكاتب، بأن حياة نصنعها يمكن أن نتقاسمها مع غيرنا في لحظة من اللحظات ونحتاج إلى أن نصدق أنها حقيقة كما يقول كولريدج، حتى نستمر فيها ولكأنها الحياة التي نعرفها لأنها تشبهنا.

أكبر صدمة هي أن يدرك الكاتب بفعله الكتابي أنه ليس معلماً، ولا قائداً عظيماً، ولا نبياً ولا إلهاً صغيراً، ولكنه مجموعة تشظيَّات لا شيء يجمعها إلا الكتابة التي تعطيها المعنى، لهذا كله، وأمام هذا الكم من التساؤلات التي لا نملك لها أجوبة صارمة إلا فعل الكتابة ذاته حيث يتماهى كل شيء في عمق وغنى الحياة، أن تكون صادقاً في الكتابة لا أن تقول الحقيقة التي يشترك فيها الجميع، ولكن أن تملك القدرة الحية لإيجاد حقيقة أخرى، الحقيقة الموازية التي ينتجها النص، ويذهب بها بعيداً نحو الأبدية والمطلق.