الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

التصوف ليس انعزالاً

يذهب البعض منّا إلى أن التصوف يعنى الانعزال والبعد عن قضايا المجتمع وهموم الوطن، ومن ثم فهو ليس مرشحاً للقيام بدور اجتماعي حاسم؛ التصوف بهذا الفهم يصبح مسألة فردية تماماً وخاصة جداً.

ويبدو أننا نخلط بين الزهد والانعزال أو العزلة وهجرة المجتمع؛ الزهد هو عدم التكالب على مطالب الدنيا وتطلعاتها، والتركيز على السمو النفسي والروحي، وإن شئنا الدقة فالزهد هو حالة من الترفع عن اللهاث وراء المطامع وتجنب الانتهازية، أما العزلة فهي أمر آخر، فقد ينعزل أحدنا، لكنه يلاحقهم بشروره وأحقاده، وقد تكون عزلته دليل نفور من الآخرين أو كراهية لهم، وربما تكون حالة من الأنانية.

وعرف تاريخنا نماذج رفيعة لأفراد عظام ومجموعات من الصوفية لم ينعزلوا بل انخرطوا في تيار الحياة العام، وقادوا مجتمعاتهم نحو الدفاع عن الوطن وعن الكرامة الإنسانية، ورفض الغزو والاحتلال الأجنبي، وكان سعيهم أن ينتقل المجتمع نحو الأفضل.


في مصر كان أبو السعود الجارحي وهو من المتصوفة، قاد ورجاله عملية مقاومة الغزو العثماني لمصر سنة 1517 وجمعوا الرجال حول «طومان باي» لمواجهة الغازي سليم الأول، وفي مصر أيضاً وجدنا عمر مكرم نقيب الأشراف يقود ثورة مايو 1805 التي كان قوامها أكثر من 40 ألف مواطن حاصروا قلعة صلاح الدين حيث مقر الوالي العثماني «خورشيد باشا» وهم يهتفون «انزل يا باشا» أي ارحل، فرد الوالي: «لقد عُينت بأمر مولانا السلطان فلا أُعزل بأمر الفلاحين»، فيرد عليه عمر مكرم: «إن الشرع الشريف يجيز للرعية عزل مولانا السلطان نفسه» وكان أن نزل الباشا واختار الأهالي محمد علي مكانه.


وفي الجزائر، وجدنا الأمير عبدالقادر، وكان صوفياً، يقود المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي سنة 1830؛ وظل يقاوم لمدة خمس سنوات مع رجاله، ثم غادر الجزائر إلى مصر ولعب فيها دوراً سياسياً وثقافياً مهماً، ثم توجه بعدها إلى سوريا وقام فيها بعدة أدوار عظيمة، يطول شرحها.

وفي ليبيا، هل ننسى دور السنوسية في مقاومة الاستعمار الإيطالي وزعيمها المجاهد العظيم عمر المختار؟، الذي كان زاهداً في الدنيا فعلاً؛ لذا لم يتردد في أن يقدم حياته فداء لوطنه ودفاعاً عن استقلاله وزرع روح المقاومة.

الزهد الصوفي ليس انعزالاً، ولا هو أنانية فردية أو انتهازية سياسية، بل هو فداء وتضحية وحب للآخرين، ومن ثم اندماج معهم، وليس ابتعاداً عنهم ولا استعلاء عليهم، ناهيك عن العداء لهم.