الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

ليالي الأرق

ليالي الأرق

ليالي الأرق

بقلم: غصون ممدوح مشاركة في برنامج القيادات الإعلامية العربية ـ مصر

بقيتُ هذه الليلة أتبارى مع عقلي حول دخولي للشرفة ثم انتصر حبي لها، دخلت أقدم قدماً وأؤخر الأُخرى، دخلت وأنا أغُض نظري عن موضع شرفته.. جَبِنْت.. فجلست على مقعدي، وسرحت في اليوم الذي أدرِجه تحت بند العصيب جدًا.

اليوم تعود خالتي المهاجرة لأستراليا بعد سفر 12 سنةً متواصلة، وأنا المخولة باستقبالها، أخذت إذناً مبكراً من العمل.


دخلت لرواق المطار جلست.. كان بجانبي رجل نائم بعرض المقاعد يثني جزعه على ولده في حضنه، ويثني قدمه بما يسمح لجلوس فردٍ آخر، وقد كان – صدفةً - أنا، كنت أتأملهم بفرطٍ من الدهشة، وبعض حسدٍ لقدرتهم على النوم وسط مكبرات صوت صمَّت أُذناي.


وأنتفض منتظرة لأرقام الرحلات المقبلة، حاولت أن ألقي وجهي بعيداً عنهم، وأكمل تحديقي بأي شيء، اصطدمت نظرتي بفستان عُرسٍ يبرق، تتسربل به عروس انحسرت ضحكاتها قليلًا، وإن لم تخننّي عيناي، فقد رأيتها تذرف دمعاً، كانت تودع أهلها مسافرة دون زوج، فعلى الأرجح ستُلاقيه أينما كانت وجهتها.. عروسٌ وحيدة!.

وعلى صعيد آخر طفلٍ يبكي مستفزاً.. وآخر اعتدل من حضن والده، فانتفض الأب بلوعةٍ وضمه بين ذراعيه وسكنا وعادا للنوم، ونفسي البغيضة تبغضهم على هذا النعيم.

مرت ربع ساعةً أُخرى، والمنتظرون كُثُر، حتى أتت موظفة بنقرة أخرى على كتفيه فَزغ بسببها الأب كأنّ ليس في نومه راحة، وأرهفت سمعي: يا أستاذ انتظار الترانزيت ليس هنا، تستطيع النزول عبر المصعد للدور الأسفل وتنام.

كنت أهذي داخل نفسي كيف ينتظر شخصًا على مقاعد حديديةً نائمًا في بلد مؤقتة؟، ما الذي أجبره؟!، كان فضولي يسيطر على نفسي، قمت خلفه وهو يحمل طفله بشدة ولوعة بين ذراعيه وقبل دخولي المصعد معه، التفت لمكانه الذي شغله نائمًا لأجد رجلاً عجوزاً ينفضه بيده ويجلس، بعدما تيبست قدماه انتظارًا لاستيقاظه.

دخلت معه المصعد على استحياء في صمت لا يعبر عن فضولي تجاهه، مددت يدي وداعبت وجنة طفله المكتنزة، فصرخ بردة فعلٍ بدت في عيني مُتطرفة على لُطفي معه، فرد والده بلكنة بلده - بعتذر منك يا آنسة، بس هو بيخاف كتير من الغرباء بعد ما قضى أسبوعين تحت القصف.

قلت: أي قصف؟.

فأجاب: القصف بسوريا، فنحنا بالزور اقدرنا على اللجوء كنازحين للنمسا.

قلت: تركت أرضك؟.

فردّ: تركتني روحي، بموت زوجتي إدام عيوني أنا وولدي، وما بقى عندي شي اخسره، وخسرنا كرامتنا يوم شوفنا بيوتنا بتتهدم إدام عيونا، وقلوبنا ترجف من الخوف تحت القصف، عن شو بتحكى أنتِ وعن أي أرض بتذكريني فيها؟.

فُتحت أبواب المصعد على مصرعيها كما فتح هو النار على مصارع قلبي المكلوم بقصته، خرج هو بابنه وتيبست قدماي، فكم كنت وقحة ومحدودة العقل والرؤية!، نظرت لساعتي وصوت المكبر يعلو بوصول رحلة سيدني، كان اللقاء بخالتي حافلًا، ودودًا عكس توقعاتي بعد سنوات الغربة خرجنا سويًا من المطار متجهين لمنزلي مع أولادها، ولكن روحي لم تخرج من ذاك المصعد إلى الأبد.

أنا في زحامٍ من النعم ولا أنام، وبِتُ أتساءل: أبعد كل الذي رآه هذا الرجل وولده، يستطيع أن يزرع بأرضه الخاصة حبًا فيحصد جمالًا، أن يرمي بذوراً من الخير فتنتج حقولاً من الصدق وسط برد أوروبا، وسط حطام روحه؟، أيقدر بعدما كفر بأرضه التي لفظته، على تعمير غيرها بقلب صغيره؟.

أينام يومًا هذا الرجل بدون رؤية اللون الأحمر، دون أن يشم رائحة حريق قلبه عن زوجته؟.