الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

خارج مجال التعرية

خارج مجال التعرية
بقلم: د. فضيلة ملهاق روائية وشاعرة ـ الجزائر

ساد الـهدوء بعد رحيل الضيوف، وتدفّقت الأحلام في جمجمتي، بعد أن طرقوا بابي في ليلة مظلمة وباردة، تقبضُ فيها الكوابيس على الأنفاس، وبثوا في دفء الأمل بصوت واحد:

- نحن مندوبو مجمع حماية المكبوتين، توصلت مصانعنا الحقوقية إلى اختراع آلة ترصد أفعال الكبت في القبيلة ونريدك معنا.


- أنا أناضل ضد النهش، لا تجربة لي في أمور الكبت.. قلت أنبههم لمجال تخصصي.


أفرجت شفتا أحدهم عن ربع ابتسامة، وقال:

- أين تصنف تحجيم الفكر، وتكميم الكلمة، واستغفال الفطرة.. أليست كلها نهشاً لحقوق الخلق؟

نزل كلامه كالجليد على قحف رأسي، فشعرت بالحرج، وحاولت أن أستدرك الموقف، فقلت له:

- مشروع مهم كهذا يجب أن يتجاوز حدود القبيلة! ابتسم هذه المرة نصف ابتسامة، وكأنه يتعمد أن يتدرج في الإفراج عن تعابير وجهه، وقال لي:

- القبيلة العالقة بذهنك تلاشت، وتفرقت خيمُها، لفائدة مصالح إنسانية مشتركة، جعلتنا نأتيك من أقاصي الأرض، لنجعلك سفيراً للشّفافية، ستكون أول من يُشرف على استخدام جهاز التعرية في تاريخ القبيلة، سيطلق الجهاز ذبذبات، تسجل لك وضعية الحي على شاشة صغيرة وتنفذ إلى العقول، وتستدرج لسان المسؤول عن الانتهاكات، الذي يطول إلى غاية أن ينبطح بين يديك، ويدلي بحقيقة ما يحدث بلا زيادة ولا نقصان، ولا يمكنه أن يعود إلى وضعه المعتاد إلا بعد أن تأخذ لك طابعة الجهاز صورة عنه، مختومة باعترافه.

أذهلتني الفكرة، قلت له وهو يغادر، بامتنان:

-تشرفت بك، سيد..

ضغط على يدي بشدة، وأطلق ابتسامة كاملة، ولكنها غامضة وعميقة، وانصرف، قلت أستكمل العبارة المبتورة:

ـ «مؤنس»، أوجدت له اسماً يتلاءم مع شعوري بالاستئناس بفكرته من وحشة نضالي الطويل، وانضممت بعدها بأيام إلى فريق التنفيذ، ورحت أنتقل معهم بكل حماس من حي إلى آخر.

ظهرت العبارات تلو الأخرى، وتباينت الألسنة الملتاثة بأفعالها، وتنوّعت المكبوتات المتحررة على شاشة الجهاز: «حياكة الرذائل بالفضائل»، «زراعة المزابل»، «استنساخ مُسوخ السّرائر»، «افتتاح بورصات الضمائر».. وفي كل مرة يظهر على الشاشة طلسم يقوم لسان بفك شفرته، وأكتب أنا تقريراً عنه، مأخوذاً بنظرات أعضاء الفريق، التي تُطمئنني على أن العدالة ستأخذ مجراها.

كشفنا خبايا أحياء عدة، وهممنا بالعودة إلى مقر المجمع لتقديم نتائج جولتنا الطويلة، وإذا بحي منعزل عن باقي الأحياء يظهر خلف ربوة غابة كبيرة، تكاد تُخفيه تماماً عن الأعين، جربنا الجهاز مرة، ومرتين.. وأكثر، ولم تصدر عنه سوى ذبذبات مزعجة، لم يظهر لا لسان ولا كتابة على الشاشة، تغلّب فضولي على مخاوفي ولم يتراجع تصميمي، حتى والشمس تتزحزح عن موضعها.

حل الظلام الدامس، فخرج إلينا شخص من ذلك الحي، واقترب منا بخطوات واثقة، وملامح غامضة، ألهب طرف الغليون بعود الثقاب، فانتابني الشعور بأنني أعرفه، وحال أن نطق، صرخ يقيني:

ـ «السيد مؤنس!» نفث كلمات جازمة، توهج لها طرف الغليون.

وأشار به آمراً:

ـ «هنا يسكن الكبت، ها هو نفَس من أنفاسه يمتد نحو أحد الأحياء! أدرِكوه!

ركضتُ مع الراكضين.. كانت فرصة للهرب، آويت إلى مغارة، إلى غاية أن تسللت إلي خيوط النور، وانكشفت لي ملامح ذلك الحي بوضوح، تشجعت، وقرّرت أن أخرج، وأواصل نضالي القديم، لم يعد يُفيد الاختباء بعد أن تجرأت دسيسة العتمة على الارتسام في وضح النهار: «خارج مجال التعرية».