الثلاثاء - 23 أبريل 2024
الثلاثاء - 23 أبريل 2024

السّلطة الأولى

يعد مبدأ «الفصل بين السلطات» واحداً من أُسس الديمقراطية المعاصرة.. إنّه الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وكذلك الفصل بينهما وبين السلطة القضائية.

تقوم السلطة التشريعية بمراقبة السلطة التنفيذية، وتضع الحكومة في كل سياساتها وقراراتها ضرورة قبول البرلمان وموافقته، ويمتلك البرلمان ـ إذا ما أراد غالبية أعضائه ـ إسقاط الحكومة أو محاكمة الرئيس، وإحداث التغييرات التامة في سقف السلطة التنفيذية.

بعد عقود طويلة من استقرار مثلث القوة: التنفيذي والتشريعي والقضائي. أطلق البعض ــ مجازاً ــ على الإعلام اسم السلطة الرابعة، وجرى منحها حق الإشراف والمتابعة، وكذلك التحقيق والمساءلة تجاه السلطات الثلاث.


ومنذ نشوء الإعلام الجديد، في أعقاب الإنترنت، ثم انطلاق وسائل التواصل الاجتماعي، وسيطرتها على حياة مليارات البشر حول العالم، أطلق البعض على الإعلام الجديد مسمى السلطة الخامسة.


لا يزال البعض يفكر فيما إذا كان هناك من يجب منحهم في المستقبل لقب «السلطة السادسة» أو «السلطة السابعة»، لكن الحقيقة ـ في تقديري ـ ثمّة سلطة باتتْ أقوى كثيراً من جميع السلطات، وهى الصانع الرئيس لها والمشكِّل المهيمن عليها.. إنها السلطة الماليّة.

إنّ سلطة المال هي التي تأتي بالسلطة التنفيذية، كما أن سلطة المال هي أيضاً التي تأتي بالسلطة التشريعية، وهي تأتي بهما لأنها تملك سلطة الإعلام وسلطة تمويل الإطار التنظيمي والحركي للأحزاب والقوى السياسية.

إنّ السلطة التشريعية ومعها القضاء والإعلام.. تراقب جميعها السلطة التنفيذية، كما أن السلطة التنفيذية تمتلك أدوات أمن واستخبارات ومراقبة تضع الوطن بكامله تحت المجهر، لكن السلطة السياسية للمال لا تجد من يراقبها بما يناسب حجمها، والانتخابات الأمريكية والأوروبية تعد نموذجاً لنفوذ «السلطة الأولى» وقدرتها على تحديد باقي السلطات.

وحيث تعمل الدساتير على تحقيق التوازن بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، فإنها لا تعمل على تحقيق التوازن بين السلطة الرأسمالية والسلطتين التنفيذية والتشريعية.

يتهم خصوم واشنطن النظام الأمريكي بتزايد سطْوة المجمع الصناعي العسكري في اتخاذ القرار السياسي الأمريكي، وهي السطوة التي طالما حذّر منها ساسة أمريكيون كبار من وزن الرئيس أيزنهاور، ويتهم الخصوم ذلك المجمع بقدرته الحاسمة على منع أي مبادرات إصلاحية للنظام الأمريكي.

لا يمكن اعتبار قوة السلطة الأولى.. سلطة المال مجرد أداة للتفاعل السياسي.. إن ذلك التحليل يتجاهل أنها ليست مجرد أداة بل هي صانعة الأدوات، ولم يعد ممكناً إدارة حملة انتخابية لأيّ نائب أو سيناتور، فضلاً عن أي مرشح رئاسي من دون تلك الأموال الطائلة التي تصل بها إلى نقطة الفوز.

إن أخطر ما يهدد الديمقراطية هو إزاحة السلطات الثلاث لصالح السلطة الأولى من دون أن يظهر ذلك على نحو واضح ومسؤول، وما لم تتمكن النخب الديمقراطية من ترميم ذلك الكسْر الكبير، ستظل الديمقراطية الغربية في طريقها إلى الاختلال.. وإن صعود صوت المال في السياسة يساوي تآكل صوت الشعب في القرار.