الجمعة - 19 أبريل 2024
الجمعة - 19 أبريل 2024

الجهل عصر المعرفة

مَنْ منا لا يعلم ما كان يتكبده الباحثون عن المعرفة قديماً من الوقت والجهد والبحث حتى يحققوا مبتغاهم، وكم كانوا يقطعون المسافات الطوال للتحقق والتوثيق. لقد كانت المكتبات في الخمسينات والستينات هي الملاذ الوحيد للباحثين والمؤلفين والكتّاب، وكان لقاء الباحث بكتاب في تخصصه كأنه لقاء السحاب وانتظار ابنٍ بعد غياب.

اليوم وفي عصر المعرفة المطروحة إلكترونياً، وعبر منصات ومكتبات رقمية تتيح نتاج الفكر البشري في ثوانٍ معدودات ليصل الباحث إلى ضالته ويجد مبتغاه المعرفي، وإجابة عن سؤاله في دقائق، ورغم تلك الإتاحة المعرفية وتعدد مواردها، تضمحل المعارف لدى كثيرين، ما يدخل المجتمعات في دياجير الجهل، وهذه ظاهرة محيرة، فكيف تجتمع (الإتاحة) المعرفية، وفي الوقت نفسه (الجهل) والعزوف عن المعارف؟

ثلاث ظواهر قد نجد في ثناياها الإجابة عن السؤال المطروح.. الظاهرة الأولى: التركيز على الشكل للانتهاء في أسرع أجل زمني، والبعد عن المضامين والمحتوى والتأصيل، وكأن العقد الجديد بين (الباحث) و(متلقي) البحث: عليك بالسرعة والاهتمام بالشكل دون المضمون، فلن يحتاج بحثك إلى قراءة أو إمعان نظر، ولن يلتفت أحد إلى ما تكتب، فالعبرة بالشكل لا بالمضمون، متناسين ثنائية الجوهر والمظهر، وهذه الظاهرة ليست قاصرة على المجال الأكاديمي فحسب، بل امتدت لتطال المجالات المهنية محاسبياً وهندسياً وقانونياً وإدارياً، وغيرها.


الظاهرة الثانية: غياب ما يطلق عليه معيارية البحث أو معايير التقييم من حيث المحتوى واللغة والربط والحداثة والشمولية والموضوعية والدقة والقيمة المضافة والتفرد فى الطرح، وينجم عن غياب تلك المعيارية عدم وجود رابطة عقدية بين (مقدم) البحث و(متلقيه)، ليتم الاحتكام إليها في مستوى ما يتم تقديمه، فإيقاع الحياة السريع والرغبة في التكسب المادي، والإتاحة المعرفية عبر كل المنصات يجعل العمل البحثي أو المهني وكأنه تجميع قوالب ورصها في صفحات، وتقديمها دون تأصيل وتثبت ورؤية ورويّة.


الظاهرة الثالثة والأخيرة: هي الكسل المعرفي ومجافاة القراءة والانشغال بقشور المعرفة والنظر إلى الأمور بمنظار السطحية والفوقية والسرعة للوصول إلى النتائج دون تمحيص أو تريث، ليكون المنتوج النهائي بحثياً أو مهنياً قشوراً من متون.

أخطر ما في الموضوع هو رهان البعض على أن (الذكاء الاصطناعي) سوف يحل الكثير من هذه الأمور، لكن الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى ثوابت معرفية ليمنحك حلولاً مبتكرة.. ولهذا حديث آخر.