الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

في الردّة المعرفية

واحدة من المشكلات الثقافية الكبرى عربيا والتي عطلت الانتقال نحو حداثة خلاقة، هي أن أغلبية المثقفين العرب عندما يصلون إلى نقطة معينة في سجالاتهم العصرية، يتراجعون ويعودون إلى الصف على الرغم من أن إيمانهم بقضاياهم التي دافعوا عنها حقيقي وصائب، بالخصوص عندما يتم الاصطدام بالمؤسسة السياسية - الدينية.

حالة قاسم أمين الذي قاتل من أجل تحرير المرأة وأنجز مؤلفين تاريخيين يشكلان اليوم مرجعا مهما لتحرير المرأة: تحرير المرأة والمرأة الجديدة، حالة تدفعنا إلى الكثير من التأمل، لماذا تراجع عن فكرة نبيلة كان هو أول من عبد طريقها؟، مع أنه تكون في فرنسا، وعندما عاد إلى بلده مصر كان ممتلئا بالأفكار التجديدية، بعد أن قضى هناك أربع سنوات يدرس فيها المجتمع الفرنسي، واطلع على الكثير مما أنتجه المفكرون الفرنسيون في مجالات الفكر والفلسفة والمجتمع وبنيات السلطة والعقل، وأعجب بفكر الثورة الفرنسية التي فتحت طريق الحرية أمام الجميع.

قاده ذلك إلى فكرة ضرورة تغيير وضعية المرأة، لكنه جُوبه بعاصفة أدانته بكل البذاءات على الرغم من كونه على حق إذ لا يمكن لمجتمع أن يتطور ونصفه مشلول كليا، فالمشكلة هنا ليست كل الذين أتوا بالجديد عالميا جوبهوا بهذه الطريقة وربما بشكل أعنف وصل حد الاغتيال.


كتاباه عن تحرير المرأة والمرأة الجديدة اعتبرا امتدادا للفكر الاستعماري، وعندما شُدد عليه الخناق انتصر العقل الفقهي على الرغبة في التحديث والتنوير، تراجع قاسم أمين لينضم إلى جوقة القوة، فبدأ بانتقاد نفسه ومشروعه.


نشرت جريدة «الطاهر»، عام 1906 اعترافات قال فيها: «لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في ( تحرير نسائهم ) وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق الحجاب وإشراك المرأة في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم ولكن ... أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن سافرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال وأخلاقهن بكل أسف ما جعلني أحمد الله ما خذل دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي ... رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا وتطاولوا عليها بألسنة البذاءة، وما وجدت زحاماً، فمرت به امرأة، إلا تعرضوا لها بالأيدي والألسن» لدرجة أن نتساءل إذا كان هو نفس الشخص الذي ناصر تحرر المرأة.

كلامه يبدو منفصلا عن معاركه في تحرير المرأة، غاب فجأة الرجل الصلب الذي دفاع عن رؤية تاريخية رأى من خلالها أن أكبر حجاب للمرأة هو ثقافتها وتعلمها وثقتها في نفسها، لم يتزعزع أمام عتاة المحافظين الذين وقفوا ضده من أمثال مصطفى كامل، الذي ربط فكرة التحرر بالاستعمار، وطلعت حرب الذي رد عليه بكتاب «فصل الخطاب في المرأة والحجاب» ومحمد فريد وجدي وغيرهم.