الجمعة - 29 مارس 2024
الجمعة - 29 مارس 2024

العالمية المتغطرسة

حققت الكثير من النصوص الإبداعية العربية عالميتها من خلال علاقتها المتشابكة مع الفعل الإنساني الذي سدّت أمامه نقصا معرفيا وإبداعيا محسوسا، قد يكون العامل الزمني مهما جدا في تحقيق هذه الغاية، أو هذه النقلة باتجاه رحابة لا حدود لها.

من هنا يتبدى بوضوح أن العالمية في هذا السياق، لا تصنعها دائما اللحظة الراهنة والحاضر المتغير باستمرار، ولكنها ديمومة في الزمان والمكان تستجيب لحاجة إنسانية حساسة، شكسبير دالة واضحة على ذلك.

وهو لم يكن شيئا يذكر في الزمن الذي عاش فيه مهمشا، فقد أُهمل على مدار القرنين اللذين أعقبا وفاته، ولم يكن أحد ينشغل بقوة مسرحه التراجيدي، وانتظرت البشرية قرنين من الزمن قبل أن تضعه على رأس صناع التراجيدية الخالدين، فقد عبرت نتاجاته عن رؤية عالمية واسعة أعادت تشكيل المسرح من أساسه.


هذا وحده كاف لأن يجعلنا نتأمل ما يحدث أمامنا من حركة وتموجات ترفع نصوصا إلى مصاف النصوص العالية، وتنزل نصوصا عالية القيمة إلى حضيض التغاضي والنسيان.


يجب أن يدفعنا ذلك إلى الكثير من التأمل والتريث، العالمية مدار تاريخي وليست إطارا زمنيا، لا إرادة للبشر فيه مهما حاولوا، وإلا لكانوا خلدوا كتاب الحواشي الضعيفة التي لا شيء يفرضها إلا قوة السلطان، إن ألف ليلة وليلة صارت جزءا من الذاكرة العالمية بفعل تأثير سحرها في المخيال الجمعي بالمعنى الإنساني الواسع عبر امتداد التاريخ وعبر فعل تلاقحي شرقي غربي معقد، إذ لا أحد عاقل ومتبصر يهمل ملمس أنطوان غالان Antoine Galland على الليالي.

ويبدو أننا اليوم بصدد عالمية مبتورة تحتاج بالفعل إلى تأمل حقيقي، جانبها الظالم لا يمكن نكرانه أبدا ولكنه مؤقت، وليس كل ما تقذف به هذه العالمية صالح لأن يكون تاريخيا مهما ولا زمنيا، فالذاكرة قاسية ويمكن أن تنساه بسرعة كبيرة لأنه في النهاية صناعة إعلامية وليس أدبية تعتمد على وسائلها الداخلية الخاصة، وإلا لماذا لم يلتفت نحو ساحة عربية شاسعة ثقافيا، كانت إلى وقت قريب منتجة للمعرفة وغنية بإسهاماتها، على الرغم من حالات الإحباط المتكرر، إلا بعد قرابة القرن من إنشاء جائزة نوبل مثلا؟. المتأمل للثمانين سنة السابقة لنجيب محفوظ يكتشف أن الإبداعية العربية لم تكن جافة ولا ميتة، وأسهمت إلى حد بعيد في أنسنة مجتمعات حكمها مدة طويلة القهر العثماني، وقاتلت من أجل حداثة مستعصية، وقاومت الاستعمارات المتتالية باستماتة من خلال نصوص إبداعية تشكل اليوم مراجع ثقافية وإنسانية متميزة وعظيمة.

وربما يكمن الضعف الكبير في أنّ العرب غير معنيين بالقدر الجاد بترجمة معرفة الآخر للاستفادة منها، كما أنهم غير منشغلين بتوصيل ثقافتهم وفكرهم وأدبهم على وجه الخصوص إلى الآخر، كما تفعل البلدان التي تهمها صورتها العالمية، وتغييرها باتجاه ما هو إيجابي، خارج الكليشيهات الجاهزة، وهو ما ينقص العرب اليوم وبشكل فادح في ظل إعلام دولي متغطرس وغير عادل.