الجمعة - 17 مايو 2024
الجمعة - 17 مايو 2024

مدينة «فيليس» بمقدونيا .. مصنع الأخبار الكاذبة

ارتكز النشاط الاقتصادى لمدينة "فيليس" خلال عقود طويلة على صناعة البورسلين لجميع أنحاء يوغوسلافيا، ولكن فى السنوات الأخيرة تغير هذا النشاط تماما، ولم يكن السبب هو إغلاق غالبية المصانع لظروف اقتصادية، ولكن لأن العديد من شباب المدينة اكتشفوا نشاطا أكثر ربحية بكثير وهو تصنيع الأخبار الكاذبة.

تلك المدينة الواقعة على ضفاف النهر داخل دولة مقدونيا حاليا، أصبحت موطنا للعشرات من مشغلى مواقع الإنترنت الذين يعملون على إنتاج قصص وهمية تستهدف جذب انتباه الأمريكيين على وجه الخصوص، ومع كل نقرة ينقرها القارىء الأمريكى على تلك الروابط الالكترونية، يزداد الحساب المصرفى لمشغلى المواقع.

لفتت تلك المدينة انتباه العالم عندما تمكن الخبراء من تتبع أكثر من 100 موقع على شبكة الإنترنت خلال الأسابيع الأخيرة من الحملة الانتخابية لرئاسة الولايات المتحدة عام 2016 كانت جميعها تقوم بنشر أخبار زائفة تدعم فى مجملها "دونالد ترامب" المرشح وقتها لرئاسة أمريكا.


أحد الشباب من رواد هذه الصناعة الغامضة، والذى يبلغ من العمر 24 عاما، ولم يكمل دراسة الحقوق تحدث إلى شبكة CNN حول ما يفعله واشترط ألا تتم الإشارة إلى اسمه الحقيقى أو أى معلومات يمكن أن تكشف عن شخصيته، وطلب أن يتم تعريفه باسم "ميخائيل" فقط.


هذا الشاب يمتلك هوية أخرى زائفة عبر الإنترنت تحمل اسم "جيسيكا" يفترض أنها شابة أمريكية ناشطة عبر موقع فيس بوك وغالبا ما تنشر على صفحتها منشورات وأخبار مؤيدة لترامب. أما موقع الويب وصفحات الفيس بوك التى تديرها جيسيكا فهى موجهة لجمهور القراء من المحافظين فى الولايات المتحدة.

بطبيعة الحال، فإن القصص التى ينشرها هذا الموقع سياسية كما أن أغلبها يعتمد على معلومات خاطئة وكاذبة أو مختلقة تماما، إلا أن هذا الأمر لا يشغل بال ميخائيل على الإطلاق، ويقول الشاب: "لا أهتم بذلك لأن الناس يقرأون، وببساطة كان عمرى 22 عاما وكنت أجنى أرباحا أكثر مما يربحه الشخص العادى فى مقدونيا طوال حياته". يدعى الشاب أنه يحقق ما يصل إلى 2500 دولار فى اليوم الواحد من الإعلانات عبر موقعه، بينما يبلغ متوسط الأجر الشهرى فى مقدونيا 426 دولارا.

تأتى تلك العوائد بشكل رئيسى من خدمات الاعلانات الالكترونية مثل AdSense التى تقدمها جوجل، وهى الخدمة التى تضع الإعلانات الموجهة عبر أنحاء الويب. وكل نقرة على أحد روابط هذا الموقع ترسل الأموال إلى صاحب الموقع. ويقول ميخائيل إنه استخدم أرباحه فى شراء منزل وتعليم إخوته الأصغر.

ويزعم الشاب إنه فى وقت من الأوقات كان يوظف 15 شخصا بما فى ذلك اثنين من المؤلفين من الولايات المتحدة، ويقوم هذا الجيش الصغير بتأليف القصص الإخبارية والتفاعل مع المستخدمين عبر وسائل التواصل الاجتماعى. وأن أحدث مواقعه يمتلك 1.5 مليون متابع على فيس بوك غالبيتهم من الولايات المتحدة.

هذا الموقع تم حجبه منذ عدة أشهر بعد انطلاق حملة ضخمة قادتها فيس بوك وجوجل لمكافحة انتشار الأخبار الكاذبة، ولكن هذا الأمر لم يمنع ميخائيل من إعادة التخطيط لمستقبل أعماله فى تجارة الأخبار الكاذبة، والهدف القادم أمامه هو انتخابات الرئاسة الأمريكية 2020.

أما ميركو سيسلكويسكى فيتمتع بخبرة أكثر من عقد كامل فى إدارة مواقع الويب التى تستهدف القراء داخل أمريكا، وبدأ رحلته مع المواقع التى تقدم نصائح طبية مشكوك بها، ونصائح بناء العضلات، والشائعات وأخبار المشاهير، ثم أكتشف مؤخرا كنز الأخبار الزائفة.

يقضى الرجل وقته الآن فى تعليم شباب مدينة فيليس تفاصيل صناعة الأخبار المزيفة، ويخبر متدربيه أنهم سيكسبون ما يزيد عن 1200 دولار شهريا من مواقعهم لترويج الأخبار الزائفة على الإنترنت. ويقول عن هذه التجربة: "هناك الكثير من الشباب والكثير من الوقت.. والعملية بأكملها تنتشر انتشار النار فى الهشيم".

ويقدر سيسلكويسكى أن ما يقرب من 100 شخص من تلاميذه يقومون الآن بإدارة مواقعهم الخاصة للأخبار الزائفة المتخصصة فى الأخبار الأمريكية. وهو يساعد تلاميذه على أن تكون مواقعهم ذات شكل احترافى يحاكى المواقع الإخبارية الحقيقية بما فى ذلك الأقسام المختلفة، ولافتات الأخبار العاجلة وغيرها.

يتعلم المزيفون أيضا كيفية خلق قصة ناجحة، والخدعة الأساسية هى العثور على قصة حقيقية مثيرة يتابعها الجمهور باهتمام، ثم التلاعب بالمعلومات داخلها لتصبح أكثر إثارة وانتشارا، وكما يقول الرجل: "العنوان هو أهم العناصر".

ويؤمن سيسلكويسكى أن هناك أربعة على الأقل من تلاميذه أصبحوا "مليونيرات"، بينما حقق العشرات غيرهم ثروات جيدة من تجارة الأخبار الكاذبة.

الحرية النسبية التى عاشت فيها مدينة "فيليس" وصناعتها الغريبة أوشكت على النهاية، فعلى عكس حكومات سابقة فإن الحكومة الجديدة التى تم انتخابها مؤخرا تنظر بقلق شديد إلى تلك السمعة الضارة التى أصابت الدولة باعتبارها أحد مراكز ترويج الأخبار الكاذبة عالميا، وقال المتحدث باسم الحكومة: "سنبدأ مبادرات لمكافحة الأخبار الزائفة بمساعدة منظمات المجتمع المدنى".

ولكن رغم ذلك، فإن النشاط المحموم لصناعة الأخبار الزائفة فى تلك المدينة يجد أنصارا من المسؤولين المحليين وعلى رأسهم عمدة المدينة الذى يقول إن تلك الصناعة طريقة سريعة لحصد الأموال، وأنهم لا يحاولون منع الشباب بأى شكل"، وبطبيعة الحال فإن الرجل يتحدث عن قطاع واسع من الشباب تضربه البطالة خاصة بعد إغلاق معظم مصانع المدينة أبوابها.

شاديف، عمدة المدينة، قال إنه عرض عملا فى قطاع التقنية داخل الإدارة المحلية على عدد من الشباب هناك ولكنهم رفضوا، لأن الراتب الشهرى لا يصل إلى نصف ما يحصلون عليه من الأخبار الكاذبة فى يوم واحد، بل أنه يظهر سعادته الكبيرة أن تلك الصناعة الغريبة حققت شهرة هائلة لمدينته الصغيرة عالميا، خاصة مع تأكيده أن ما يقوم به الشباب لا يخرق أى قانون محلى وأن أعمالهم شرعية تماما! بل أنه لا يرى فرقا بين الأخبار الكاذبة وبين ما يكتبه الصحفيون المحليون من "أكاذيب" عنه شخصيا.

قضية الأخبار الكاذبة شهدت اهتماما عالميا فى الأسابيع التى تلت الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، ودار جدل عنيف حول تأثير تلك الأخبار ومنصات الشبكات الاجتماعية على النتائج النهاية، وأعرب مارك زوكبيرج عن شكوكه فى تأثير "فيس بوك" على النتائج، ولكنه لاحقا غير تلك اللهجة وبدأ فى اتخاذ العديد من الإجراءات لمكافحة انتشار تلك النوعية من الأخبار.

فى سبتمبر من العام الماضى، اعترفت "فيس بوك" لمحققى الكونجرس أنها باعت إعلانات سياسية بمبلغ يقارب 100 ألف دولار لجهات تأكد بعد ذلك إنها "مزارع تنمر الكترونى روسية" قامت باستهداف المواطنين الأمريكيين خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وأكد بعض منتجى المحتوى الكاذب فى فيليس أنهم أيضا دفعوا لفيس بوك مقابل الإعلانات.

وانضمن جوجل أيضا إلى الحرب الالكترونية الضارية لمكافحة انتشار الأخبار الزائفة، حيث قامت بإيقاف عدد من الحسابات المالية المرتبطة بجماعات مقدونيا، وأشارت إلى أن النظام الالكترونى المستخدم حاليا بإمكانه اكتشاف "الناشرين السيئين"، وأنه يتطور يوما بعد يوم، كما أن الشركة أيضا قامت بتوظيف الكثير من العاملين لمراجعة المواقع المشبوهة واتخاذ إجراءات بخصوصها.

ورغم هذه الإجراءات، إلا أن مصانع الأخبار الكاذبة فى مقدونيا تواصل العمل متجاوزة كل القيود، أحد التكتيكات الحديثة هو شراء حسابات فيس بوك شرعية من الأطفال والشباب الصغار مقابل مبالغ لا تتجاوز 2 يورو، ثم بعد ذلك تحويل الاسم ليقارب الأسماء الأمريكية، وبعدها بداية البث لكل النوعيات المختلقة من الأخبار. وكما يقول أحد خبراء التقنية: "طالما استمرت الأرباح الكبيرة تأتى من هذه الصناعة، فلا يبدو أن الإجراءات الحالية كافية لردع هؤلاء الشباب".