الاثنين - 29 أبريل 2024
الاثنين - 29 أبريل 2024

«وكالة الكخيا».. أول مركز مزادات ومقايضات تجارية في الوطن العربي

مع بداية القرن التاسع قبل الميلاد بدأ تاريخ الأمة العربية، يسطر في صفحاته نجاحات عدد من القبائل العربية التي كانت تعيش على الأراضي الواقعة من موريتانيا مروراً بشبه الجزيرة العربية وحتى صحراء سوريا الجنوبية، وهي تلك الفترة التي شهدت انطلاق أعمال التجارة من خلال القوافل العابرة للممرات والدروب، براً وبحراً، لتكون شاهدة على علاقة العرب الأولين بالبيع والشراء.



التجارة العربية ومنذ هذا التاريخ استخدم فيها الإبل وعربات جر الخيل والسفن لتنقل البضائع إلى الدنيا بأثرها، فمن شواطئ الهند والخليج العربي مروراً بجنوب الجزيرة العربية وصولاً إلى مصر والمنطقة الأفريقية، كانت تأتي التوابل والعطور والأخشاب والأحجار الكريمة والذهب، وتعود أدراجها بالأقمشة والقطن والحبوب وزيت الزيتون والتمور.

تأسيس الوكالات


في هذه الأثناء شهدت المنطقة العربية انطلاق ما يزيد على 10 وكالات تجارية، في خطوة هي الأولى من نوعها، فلم يكن العالم يعرف ما معنى الوكالة وما هو دورها، لكن وكالة «الكخيا» إحدى أهم هذه الوكالات وأبرزها تجاهلاً من التاريخ، هذا ما تكشف عنه «الرؤية» خلال هذه الجولة التي بدأت من القرن السابع عشر الميلادي.




كانت الجزيرة العربية ملتقى القوافل البرية القادمة من أراضي اليمن باتجاه الحجاز ونجد والعراق، حتى إن العرب هم أول من أسس أنظمة التجارة ومراكز لإدارتها، ليستمد العالم فيما بعد الأسس المنظمة لها، ولعل ما شهدته مصر في العصور الأيوبي وصولاً لعصر المماليك كان خير شاهد على حجم التجارة العربية، من خلال تأسيس الوكالات التجارية، بمشاركة أثرياء عرب.

في 28 سبتمبر 1644 تمكن فرسان القديس يوحنا من السطو على سفينةٍ عثمانية كانت باتجاه إسطنبول قادمة من الإسكندرية، وتحمل عدداً من رجال الدولة والتجار والحجاج، وكانت جزيرة كريت آخر ما تبقى من أملاك للبنادقة في البحر المتوسط، وتعتمد عليها كمركز لتجارتها الكبيرة مع الشرق، لتبقى مستهدفه من الدولة العثمانية التي اتخذت قراراً بالحرب.

أدركت «البندقية» أنها لن تقوى على هذا الصراع، فغيرت من استراتيجيتها وأغلقت مضيق «الدردنيل»، لتجد الدولة العثمانية نفسها أمام ضرورة ملحة وهي التشجيع على إنشاء وكالات تجارية بغرض تخزين البضائع، وكذلك تسيير حركة التجارة على غرار وكالة الغورية وقوصون في القاهرة.



وكالة الكخيا التجارية

في هذه الأثناء عام 1669 وبينما يشتد الصراع في إسطنبول بعد الخسائر المالية التي تسبب فيها إغلاق مضيق الدردنيل، والإنفاق ببذخ على حريم السلطان، أعلن الأمير حسن كتخدا عزبان عن تأسيس وكالة «الكخيا» لبيع الأخشاب كواحدة من أكبر الوكالات حينها في شارع «التمبكشية»، وهى كلمة فارسية من مقطعين «تمباك» أي التبغ، و«كشية» تعني مكان البيع.

بعض المؤرخين أشارو إلى أن لفظ «كتخدا» يعود لأصل تركي – فارسي، معناه «رب الدار»، وأصبح فيما بعد لقباً يطلق على الحكام أو الولاه، وورد ذكره في عدد من الوثائق وصفحات التاريخ بـ«كيخيا وكيخا وكتختا».

تاجر يمني يتسحوذ على الوكالة

استمرت الوكالة في بيع الأخشاب، والتي كانت محط اهتمام الأثرياء، لفترة قاربت الـ173 عاماً، حتى اشتراها أحد الأثرياء اليمنيين يدعى محمد بازرعة وشقيقه، وتغير اسمها لوكالة «بازرعة»، وهي تلك الفترة التي أكد فيها ابن بطوطة أهمية عدن في التجارة الدولية، فيقول إنها تعتبر مرسى أهل الهند، تأتي إليها المراكب العظيمة وتجار الهند ساكنون بها وتجار مصر أيضاً.



استيراد «البن اليمني» لأول مرة

«بازرعة وشقيقه» لديهما خطط استثمارية ودراسات لمشاريع قابلة للتنفيذ في مصر، لكن لا وقت يسعفهما لتنفيذ هذه الخطط، فالحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت تغزو مصر حتى العام 1801، بعد صراع اتحد فيه الأتراك مع البريطانيين، بحسب ما ورد في كتاب سيرة المماليك للمؤرخة والروائية جيهان مأمون.

ما أن انتهى الغزو الفرنسي، حتى سارع الشقيقان لتنفيذ الخطط التجارية، لتبدأ أولها باستيراد سلعة جديدة لا يعرف عنها المصريون شيئاً، وهي البن اليمني وكان يطلق عليه «بن المخا» تلك التجارة التي اشتهر ت بها الوكالة الجديدة، بعد أن تسببت في خلق حالة من الصراع حول تحريم شربها.

«تحريم القهوة»

لم يلقَ المشروب الجديد «البن» ترحيباً في البداية، خاصة من رجال الأزهر ومشايخ مكة المكرمة، حتى إن الفقيه أحمد بن عبدالحق السنباطي أحد فقهاء المذهب الشافعي شن حملة قوية ضد «البن»، وقال: «طالما يؤثر على العقل بالإيجاب أو السلب فهو حرام»، ففتوى السنباطي جاءت لتتفق مع نظرة السلطان العثماني وقتذاك.



شهداء تجارة القهوة

الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد، فمعركة دامية اندلعت بين مؤيدي الفقيه الشافعي والتجار، تنتهي بمقتل أحد المؤيدين للتجار وتعرض اثنين آخرين لطعنات نافذة في الصدر، ليهرب الفقيه إلى أحد المساجد، وتتم محاصرة المسجد من كل الاتجاهات.

لم تمر إلا ساعات وبينما تستمر حالة الحصار للمسجد، حتى استقبل مؤيدو التجار أخبار وفاة الاثنين المصابين، ليصروا على الحصار ومشاركة أهالي الضحايا معهم، وما أن أتى الليل حتى قاموا بإحضار الخيم والبطاطين لمنع هروب الفقيه من المسجد.

القهوة السادة والعزاءات

حالة حصار المسجد مستمرة، لكن مؤيدو التجار يبحثون عن أي نكاية في مؤيدي الفقيه، حتى توصلوا لصناعة قهوة بدون سكر وتوزيعها على المشاركين في الحصار والمارة في الشوارع، لتكون هذه النقطة هي بداية تقديم القهوة السادة في العزاءات.

استمرت حالة الحصار ثلاثة أيام ارتفعت معها حالة من الفوضى والشغب، ليتدخل السلطان العثماني ويصدار قراراً بتعيين المفتي الجديد، والذي بدوره قرر إلغاء قرار وقف شرب القهوة أو تجارتها، وكان هذا القرار بمثابة انتصار للتجار وتكريم لأرواح شهداء القهوة.

صناعة وتجارة الصابون النابلسي

المؤرخ شمس الدين محمد بن أبي طالب الأنصاري «المقدسي»، الذي عاش في القرن العاشر الميلادي، تحدث عن صناعة الصابون، وقال إنه كان يصنع في مدينة نابلس الفلسطينية، ويصدّر إلى كل دول العام، وكتب عندما زارها عام 1200 ميلادياً «ترمز هذه المدينة إلى قصر بين البساتين أنعم الله عليها بشجرة الزيتون المباركة»، وفي هذه الأثناء لم يكن الصابون ضمن السلع التي يتم بيعها.



سلعة جديدة، ستلقى رواجاً خاصة أنها تنتج من زيت الزيتون الذي تتميز به أرض فلسطين، دفعت «بازرعة» لاستيراد الصابون النابلسي وبيعه للتجار في وكالة «الكخيا»، وهو ما نجح بالفعل حتى إن بازرعة- صاحب الوكالة- حاول فيما بعد إنتاج صابون من المواد ذاتها، إلا أنه لم يفلح - وهو ما أوضحه كتاب وقائع حارة الزعفرانة في معرض حديثه عن شخص يدعى عوض، قال «تم إرساله إلى وكالة بازرعة وعمل حمالاً ينقل زيت الصابون ويدحرج براميل عبر الشارع من المخزن حتى المعمل القريب من باب النصر».

عام 1830، قال الاقتصادي الإنجليزي السير جون بورينج، إن «صابون نابلس محترم من الكثيرين في بلاد الشام»، وكتب عنه المؤرخ السوري محمد كرد علي في 1930، أن صابون نابلس هو الأكثر جودة والأكثر شهرة في ذلك الوقت، فجودته ليست عادية وهذا هو سر إنتاجه الجيد حتى الآن.



مصنع الملك فاروق

مع بداية منتصف القرن العشرين تدهورت صناعة الصابون النابلسي، وبالتحديد مع زلزال عام 1927 الذي قضى على الكثير في نابلس، وهو ما عرف حينها بنكسه صناعة الصابون في نابلس، خصوصاً بعدما تم استغلال علامته التجارية ثم جاءت الضرائب الجمركية التي فرضتها الحكومة المصرية بالتعاون مع حكومة الانتداب البريطاني والتي بلغت 25%، وتلتها رسوم الاستهلاك التي فرضتها الحكومة السورية على الصابون النابلسي، لتبقى الصناعة عاجزة أمام كل هذه التحديات.

بينما تعاني الصناعة النابلسية التي كانت أحد دعائم الاقتصاد، سارع العديد في البلدان العربية لافتتاح مصانع لإنتاج الصابون تحمل الاسم ذاته، حتى إن الملك فاروق أسس مصنعاً يحمل الاسم نفسه، مستخدماً عدداً من الفنانين على رأسهم أم كلثوم لعمل دعاية للمنتج الجديد، لكن الشركة وكالة «بازرعة» سارعت ونشرت إعلان بصورة الزعيم سعد زغلول لدعم المنتج، وقالت إنه بتصريح منه قبل وفاته.

مدينة نابلس التي كانت تضم بين جبليها «عيبال وجرزيم» ما يزيد على 40 مصنعاً لإنتاج الصابون النابلسي، حتى سبعينات القرن الماضي، لم يتبقَ منها إلا مصنعين يعملان بالطريقة البدائية لصناع صابون نابلسي.



استقبال التجار العرب

سريعاً ما اكتسبت وكالة بازرعة «الكخيا» سمعة كبيرة في المنطقة العربية، خاصة بعدما توسعت في تجارة الأخشاب والصابون النابلسي واللوز والبندق، والتوابل والأعشاب والبخور، التي كان يأتي بهم «بازرعة» من الهند، لتتحول الوكالة إلى ملتقى للتجار العرب، تعقد فيها الصفقات، وتجرى فيها المزادات، والمقايضات على السلع.

وفي القرن الخامس عشر استقبلت الوكالة المصرية المئات من عرب الأندلس الذين فروا من إسبانيا إلى المغرب العربي ومصر بعد سقوط الأندلس «إمارة غرناطة»، وروعي في الوكالة أن تكون قريبة من المساجد ليقوم نزلاؤها بالصلاة في مواقيتها الخمسة دون إبطاء، وأن تكون قريبة من الحمامات حتى يتمكنوا من الاستحمام بانتظام، لا سيما أن الحمامات المصرية قد انتشرت في هذه الأثناء وكانت هي الأفضل على مستوى الشرق العربي في ظل العصر المملوكي.

فندق التجار العرب

توسعت التجارة وباتت وكالة «الكخيا» تستقبل كافة المنتجات العربية، وتجاراً من الجزيرة العربية والشام وبلاد الرافدين، ما دفع «بازراعة» لتحويل الجزء الثاني من الوكالة لجناج سكني، عُرف بفندق التجار العرب، يتكون من طابقين وتتكون كل وحدة سكنية من طابق أول فيه مدخل ودورة مياه ومطبخ صغير وسلم وقاعة استقبال بارتفاع طابقين، يتم إيجارها للتجار العرب، المقيمين لأيام داخل الوكالة.

كسوة الكعبة المشرفة

توسع حجم تجارة «بازرعة»، حتى إن القوافل التجارية المنطلقة إلى بلاد الحجاز كانت تتحرك من الوكالة محملة بالسلع التجارية والمنتجات المحلية في موسم الحج، مصطحبة في رحلتها كسوة الكعبة المشرفة والتي تكفل «بازرعة» بصناعتها على نفقته الخاصة، وكانت تحرص مصر في هذه الأثناء على صناعتها وتسليمها لبلاد الحجاز.

ظهور الحوالات «السفاتج»

بعد استحواذ «بازرعة» على وكالة الكيخيا بـ9 سنوات، انتشرت وبشكل كبير عمليات نهب قوافل التجار والحجاج، وهو ما أكده الجبرتي في 1787 ميلادياً عندما قال: «نهبت قافلة التجار والحجاج الواصلة من السويس إلى القاهرة، وفيها شيء كثير جداً من أموال التجار والحجاج، ونهب فيها للتجار خاصة ستة آلاف جمل ما بين قماش وتوابل وبن وأقمشة وبضائع بخلاف أموال وأمتعة الحجاج، ولعل هذه الحادثة هي ما دفعت بازرعة لابتكار نظام الحوالات البريدية، وخاصة أن التجار العرب بات لديهم قلق من الاستيلاء على أموالهم أو بضائعهم خلال السفر».

أعد «بازرعة» كتباً وهي عبارة عن سجلات مالية خاصة بتحويل الأموال، كان يطلق عليها «السفاتج» وهو نظام كان يسمح للتجار غير المصريين باقتراض الأموال على أن يسددوها له في بلد آخر ليتجنب التاجر مخاطر الطريق على نقوده المعرضة للنهب في أي وقت.

بازرعة «شاهبندر التجار»

«بازرعة» هذا التاجر الكبير الذي جاء إلى مصر قادماً من مدينة حضرموت اليمنية، بلغ مبلغه من الغنى والشهرة، حتى إنه أطلق عليه «شاهبندر التجار»، وهو لقب كان يمنح لمن بيدهم الحل والعقد في خلافات التجار وقضاياهم والحكم عليهم، حتى إن شهرته وبحسب ما ورد في كتاب أوجاع اليمن، دفعت الإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن في ذلك الوقت لطلب الاستعانة به كحاكم شرعي في أحد الأقاليم اليمنية، لكن الرواية لا يمكن تصديقها فالإمام حميد الدين جلس على كرسي الإمامة عام 1904.

ترميم الوكالة

في شهر مارس عام 2002 افتتحت وزارة الآثار المصرية أعمال ترميم وصيانة وكالة «بازرعة» أو «الكيخيا»، بعد أن استغرقت عمليات الترميم نحو ثلاث سنوات، وكلفت حوالي 5 ملايين جنيه، وذلك استعداداً لإقامة أنشطة فنية وثقافية بها على غرار وكالة الغوري.

وتضمنت أعمال الصيانة ترميماً معمارياً، قالت عنه الوزارة في حينها، إنه كان دقيقاً للجدران والحوائط، وشمل تنظيف جميع الأخشاب من مشربيات ونوافذ وأبواب، ودهنها بمواد تحافظ على طبيعة الخشب ولا تؤثر فى طبيعته الأثرية، وتغيير بلاط البانكات التي تآكلت بفعل الزمن، وتزويد الوكالة بنظم إنارة على أعلى مستوى.

المبنى مهدد بالانهيار

ما أن انتهت وزارة الآثار من ترميم مبنى وكالة «الكخيا»، حتى سمحت لعدد من الموظفين العاملين في الحكومة بممارسة عملهم من مقر الوكالة، كما تم السماح للزوار بالدخول في غير أوقات العمل، لكن الأمر لم يستمر طويلاً، وهو ما كشف عن الباب المغلق بالحديد والأقفال.

محاولات عده قامت بها «الرؤية» للدخول إلى مقر الوكالة، جميعها باءت بالفشل، فلا يمكن لأحد أن يفتح الباب فسقف الطابق الثالث انهار منذ ثلاثة أشهر، وهناك خطورة من التجول بداخلها، ليبقى هذا التاريخ والتراث والمعلم الأثري الاقتصادي مهدداً بالاختفاء.

وكالات السلاطين التجارية

وكالة «الكخيا» لم تكن هي الوحيدة التي تعمل بالتجارة في مصر وذاع صيتها في المنطقة العربية، فسلاطين المماليك أقاموا وكالات تجارية في فترات حكمهم ليحققوا أرباحاً من وراء التجار الأجانب، كما أنهم سمحوا للأهالي بإقامة الأسواق في الأماكن المحيطة بها بغرض إنعاش حركة التجارة، حتى إنه سمح بإنشاء المقاهي للترفيه عن التجار والزبائن.

وكالات أعدمها الإهمال

أبرز هذه الوكالات التي أنشأها الأمير قوصون الناصري خلف جامع الحاكم بأمر الله في الجمالية، لم يتبقَ منها سوى كتلة المدخل والواجهة، ووكالتان أنشأهما السلطان أبوالنصر قايتباي، الأولى في منطقة الدرب الأحمر كانت مكونة من ثلاثة طوابق اندثر منها الطابق الثالث، والثانية بـ«الملية»، وتقع الآن فريسة لإشغالات الأهالي.

وتعد وكالة السلطان الغوري التي شيدها قنصوه الغوري مع بداية حكمه في مصر وتمتد من الجامع الأزهر حتى منطقة سوق التبليطة بالباطنية وتعرف بمنطقة الغورية، من أهم الوكالات التجارية في تاريخ المنطقة العربية، علاوة على وكالات «الجلابة وسليمان وتفري بردي والنقادي وجمال الدين الذهبي والتوتنجي وعباس آغا والصنادقية وبدوية نيتا شاهين الكرواني ونفيسة البيضا والسلحدار».