الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

السودان.. الانفراج السياسي السبيل الوحيد للسيطرة على التضخم المفرط

طوال الأعوام الثلاثة أو الأربعة الماضية، وما أن تصدر جهة ما عالمية كانت أم إقليمية مختصة بالإحصاء والاقتصاد نشرة عن التضخم، حتى ينافس السودان على المراكز الأمامية فيها، خصوصاً العام الماضي، والذي وصل فيه معدل التضخم مستويات قياسية في بلاد النيلين.

وبحسب موقع (المؤشر الاقتصادي) المختص بإحصاءات التضخم، فإن السودان سجل رقماً قياسياً في معدل التضخم في يوليو 2021، إذ بلغ 422.78%، وهو رقم لم يحدث منذ 43 عاماً، عندما سجل التضخم، وقتها، نسبة أعلى من يوليو الماضي بـ1%.

ومنذ يوليو الماضي، ظلت معدلات التضخم تتأرجح بين الصعود الحاد، والانخفاض التدريجي، قبل أن تُلقي بظلالها على الوضع الاقتصادي في السودان، والذي اتسم بالتردي نتيجة لهذه المعادلات.

وبشكل عام، ورغم تسجيل معدل التضخم في السودان منذ يوليو (القياسي) انخفاضاً، لكن القليلين من توقعوا أن يستمر في هذا التراجع، وذلك نسبة للكثير من الظروف والمتغيرات السياسية والاقتصادية التي جرت في السودان، وأيضاً للظرف العالمي المتغيّر هو الآخر، جراء جائحة كورونا ولاحقاً الحرب الروسية الأوكرانية، وتداعياتها الواضحة على الاقتصاد العالمي.

وفي خضم هذه التحديات، والترقب في السودان، أعلن الجهاز المركزي للإحصاء السوداني، عن انخفاض معدل التضخم لشهر أبريل الماضي إلى 220.7% مقارنة بنحو 263.1% لشهر مارس الماضي بمعدل انخفاض بلغ 42.4%.

وأرجع الجهاز المركزي للإحصاء تراجع معدل التضخم في السودان للارتفاع في المستوى العام للأسعار في شهر أبريل الماضي الذي سجل معدل تغيير شهري بلغ 17.9%.

وبدوره، سجل معدل التغيير الشهري لمجموعة الأغذية والمشروبات نحو 7%، لشهر أبريل الماضي مقارنة بمعدل 14.6% لشهر مارس الماضي نتيجة لانخفاض معدل التضخم الشهري للرقم القياسي العام لمجموعة الأغذية والمشروبات، ماعدا مجموعتي البقوليات والخضراوات واللحوم التي سجلت ارتفاعاً بلغ 11.8%، 9.6% على التوالي.

أسباب متعددة

قبل الدخول في جدل المعدل الرسمي المعلن من قبل الحكومة السودانية، والذي بحسب خبراء لا يعد دقيقاً بمقدار ما يمثله انخفاض التضخم من تأثير على السوق والاقتصاد السوداني.. ربما يتساءل الكثيرون عن أسباب التضخم الجامح في السودان، والذي ما انفك يتصاعد منذ نحو عقدين من الزمان، في وقت يزخر فيه السودان بالكثير من الإمكانات والثروات الطبيعية.

وبتتبع الأمر، يمكن القول إن أسباب التضخم في العامين أو الثلاثة الأخيرة، تعود إلى سنين ما يعرف بحقبة إنتاج النفط في السودان، وتحديداً في الفترة من 2000 إلى 2011، والتي شهدت ارتفاع الصادرات البترولية بشكل كبير، انعكست عليها قوة العملة الوطنية، وتحول الجميع للاستيراد بدلاً من الإنتاج.

وتجسدت أبرز مظاهر الاعتماد على الصادرات البترولية في تراجع الكثير من الصادرات، ومنها الزراعية، إذ كان القطاع الزراعي حتى نهاية التسعينات يساهم بنسبة 39% من الناتج الإجمالي المحلي، ويستوعب نحو 80% من السكان، إلى جانب مساهمته في صادرات البلاد بنحو 80%، ما منح دفعة قوية للميزان التجاري في تلك الفترة.

ومع ظهور النفط والتوسع في استغلاله، مقابل التحول للاستيراد، والذي تسبب بدوره في الانكماش بمجال الصناعات التحويلية، بات السودان يعاني أوجاعاً مؤلمة، يمكن تشخيصها بنظر المختصين الاقتصاديين بمرض هولندي (Dutch Disease) مزمن، والذي هو نتاج أعراض مشابهة لما حدث في السودان.

صدمة الانفصال

وظل الوضع الاقتصادي السوداني مستسلماً للمرض الهولندي، وشكل انفصال الجنوب في مطلع 2011، ضربة قاضية للاقتصاد السوداني، إذ ذهب النفط إلى جنوب السودان، الدولة الوليدة وقتها، بعد أن كان يشكل نحو 80% من إيرادات السودان، ليفتح ذلك الباب على مصراعيه لغول التضخم، الذي بدأ في الارتفاع في ظل تراجع الإنتاج وأيضاً تدهور العملة الوطنية.

وبعد الاستفاقة من صدمة انفصال الجنوب، ومحاولة السودان للعودة إلى مرحلة ما قبل النفط، وإنعاش الصناعات التحويلية والإنتاج الزراعي، اصطدم ذلك بالكثير من العقبات، أبرزها العقوبات الأمريكية التي كانت مفروضة على السوداني، إلى جانب تدهور العملة الوطنية.

ما بعد البشير

وعقب سقوط نظام المشير عمر البشير بعد ثورة شعبية في أبريل 2019، وتوقيع الوثيقة الدستورية، التي تحول الحكم بموجبها إلى شراكة بين العسكريين والمدنيين، لقيادة الفترة الانتقالية، بدأت الحكومة المدنية في إزالة الكثير من العقبات، إذ نجحت فعلياً في رفع العقوبات الأمريكية التي كانت تصنف السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، قبل أن تضع السودان على الطريق الصحيح، حيث الاندماج في المجتمع الدولي مالياً وسياسياً بعد نحو 20 عاماً متواصلة، وأيضاً استيراد التقانات الزراعية والصناعية بشكل عام.

ورغم ذلك كله، فإن الفترة الانتقالية لم تُعفَ بدورها من المساهمة في ارتفاع الضخم، إذ بحسب المحلل والخبير الاقتصادي السوداني الدكتور محمد الناير في حديثه لـ«الرؤية»، كان لتمسكها بتنفيذ وصفة البنك الدولي بـ«حذافيرها» أثراً بالغاً في ذلك.

وقال الدكتور الناير لـ«الرؤية»:«لقد ظلت الدولة تطبق روشتة صندوق النقد الدولي منذ بداية الفترة الانتقالية وحتى الآن، وقد طبقت هذه الوصفة بصورة قاسية دون وجود تدابير وآليات حماية اجتماعية تخفف الأعباء على الشرائح الضعيفة، إذ زادت كل الأسعار التي لديها تحكم فيها، ونقصد هنا السلع الأساسية بصورة كبيرة، وعلى سبيل المثال كانت قطعة الخبز قبل الحكومة الانتقالية بجنيه واحد، أما الآن فقيمتها 40 جنيهاً أو 50 جنيهاً، وهو ما قاد التضخم للارتفاع بصورة كبيرة».

وأردف: «هنالك أسباب أخرى لارتفاع التضخم حالياً، منها ضعف الإنتاج والإنتاجية، إذ لم يستثمر السودان موارده الطبيعية الضخمة حتى يحقق إنتاجاً وفيراً يقلل من معدل التضخم، وأيضاً وجود فئات من الوسطاء (السماسرة) والذين يجنون فوائد كبيرة تفوق ما يجنيه المنتج (المزارع) والمستهلك، وأيضاً هناك سبب آخر هو عدم استقرار سعر الصرف، إلى جانب التضخم المستورد من الخارج، وكذلك سياسة تحرير الأسعار التي طبقت منذ عام 1992، لكن للأسف طبقت بطريقة خاطئة، ما تسببت في ارتفاع السلع بصورة كبيرة».

تحديات جديدة

وجد الاقتصاد السوداني نفسه في تحديات جديدة، وذلك بداية من الـ25 من أكتوبر الماضي، عقب قرارات قائد الجيش الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، والتي قضت بحل الحكومة الانتقالية وفرض حالة الطوارئ وتجميد بعض بنود الوثيقة الدستورية، لتنتج هذه القرارات الكثير من الاضطرابات السياسية، والتي تفاقمت معها الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.

وبدوره، منح البنك الدولي السودان مهلة حتى نهاية الشهر الحالي، من أجل التوصل إلى حل للأزمة السياسية والعودة لمسار الانتقال المدني الدولي، مهدداً بإلغاء خطة لإعفاء ديونه الخارجية والتي تفوق 50 مليار دولار، في حال لم يتم ذلك.

تراجع التضخم في أبريل.. بين التفاؤل والشكوك

في ظل الوضع الاقتصادي المضطرب في السودان والمشوب بالحذر، جراء الوضع السياسي الراهن، جاء إعلان الجهاز المركزي للإحصاء مؤخراً انخفاض معدل التضخم لشهر أبريل الماضي إلى 220.7% مقارنة بنحو 263.1% لشهر مارس الماضي بمعدل انخفاض بلغ 42.4%، لافتاً إلى، بل وأثار الكثير من ردود الأفعال.

وعلى الصعيد الحكومي، سادت حالة من التفاؤل، بتخلص البلاد والاقتصاد من الكثير من التشوهات، أبرزها دعم السلع، وأيضاً عدم استقرار سعر الصرف، إذ أبدى الجهاز المصرفي السوداني تفاؤله بسيره في الاتجاه الصحيح من أجل تحقيق الخطة الموضوعة في موازنته، والتي تهدف إلى خفض التضخم إلى 202% بنهاية 2022.

وبالمقابل، تسود حالة من الشكوك بين المحللين الاقتصاديين، لجهة أن هذا الانخفاض لم ينعكس على انخفاض أسعار السلع والخدمات، أو معاش الناس، ورأوا أن الاقتصاد السوداني دخل مرحلة الركود التصخمي، والجمع بين النقيضين ـ الركود والتضخم ـ في وقت واحد، حيث ظل المستوى العام للأسعار مرتفعاً، كما تعاني الأسواق من ركود وضعف في القوة الشرائية للمواطنين، بجانب عدم دقة قياس معدل التضخم.

انخفاض غير حقيقي

يرى المحلل والخبير الاقتصادي الدكتور محمد الناير، أن الانخفاض الأخير غير حقيقي، وذلك بحال تم النظر للمستوى العام للأسعار والسلة التي يتم حساب التضخم عليها.

وأضاف الناير في حديثه لـ«الرؤية»: «الواقع أن التضخم في السودان ارتفع بمعدلات قياسية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وبعد أن كان في حدود 50 أو 60% ارتفع إلى ما يقارب 400%، وحسب الإحصاءات الرسمية، فإنه انخفض الشهر الماضي إلى 220%، لكن أعتقد أن هذا الانخفاض غير حقيقي، إذا نظرنا للمستوى العام للأسعار والسلة التي يتم حساب التضخم عليها، صحيح كان هناك انخفاض في أسعار الخضراوات والفواكه في الشتاء الأخير، وهذا أدى لانخفاض محدود في معدل التضخم بسبب موسمية هذه المنتجات وانخفاض سعرها قبل عودتها للارتفاع، وبالتالي فهناك شكوك».

وأضاف: «صحيح أن الجهاز المركزي أصدر نشرته وهو جهة رسمية لا شك فيها ومعترف بها لإعلان معدل التضخم في السودان، لكن الواقع أن الناس يعيشون واقعاً خلاف الواقع الذي يتم الإعلان عنه، علماً بأنه في الموازنة العامة للدولة 2022، فالمستهدف حوالي 202%، ولقد كنا نعتقد أن هذا المستهدف لن يتحقق على الإطلاق، لكن يبدو أن التقارير الرسمية تتجه لتحقيق ذلك، لكن عموماً لا بد من تحري الدقة، وأن تكون هذه الإحصاءات مبنية على مسوحات، تتم بصورة شهرية لعدد السلع التي تدخل في حساب معدل التضخم، ومن ثم في نهاية العام يتم حساب المتوسط السنوي والذي يعني حجم التضخم السنوي».

وتابع: «وسواء كان هذا المعدل صحيحاً أو كان غير ذلك، لكنه يبقى معدلاً من 3 أرقام، ما يعني أن البيئة والمكان غير مشجعين للاستثمار، إذ يجب أن يكون معدل التضخم أحادياً، أي من الأرقام الدنيا، من 2 إلى 3%، ولكن بالمقابل نحن نشهد الآن أن معدل التضخم في دول أوروبية وفي أمريكا وبسبب الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات التي فرضت على روسيا وارتدت على الغرب، تجاوز 8%، وهذا لأول مرة منذ عهد بعيد، أي من نحو 40 عاماً في أمريكا، وربما أكثر من ذلك في أوروبا».

مؤشرات غير دقيقة

في سياق حديث الدكتور الناير ذاته، سار المحلل الاقتصادي بابكر أحمد عبدالله، إذ رأى أن مؤشرات التضخم معطوبة نوعاً ما في السودان، لجهة معاناة السودان من حالة عدم التأكد وتحديد الأسعار.

وقال بابكر في حديثه لـ«الرؤية»: تعتبر مؤشرات التضخم في السودان معطوبة نوعاً ما لأن السودان دولة غارقة اقتصادياً في حالة عدم التأكد و تحديد أسعار السلع، والخدمات فيه رهينة بأسعار الصرف، و يرجع ذلك إلى أن غالبية سلة السلع التي تدخل في حساب معدل التضخم يتم استيرادها من الخارج، وبالتالي فإن قيمة السلعة مربوطة بقيمة الدولار أكثر:

وأردف: «إذا أردنا تتبع سعر السلع التي تدخل في قياس معدلات التضخم و قمنا بحساب نسبة التسارع في أسعارها بمعزل عن قيمة الجنيه مقابل العملات الأخرى، فإن المؤشرات تعطينا قراءة لتضخم شبه جامح، وبكل تأكيد لا يمكننا أن نقرأ تلك المؤشرات بمعزل عن قيمة سعر صرف العملات الأجنبية مقابل العملة الوطنية لارتباطات وثيقة، فيها ما يتعلق بالقياس الداخلي لأسعار السلع و فيها ما يتعلق بالمقارنات الاقتصادية للدول بناء على مؤشرات عالمية، لذلك لا بد من تحييد عملية قياس التضخم في السودان بعملة الدولار لأنها العملة المعيارية.

وختم: «لذلك، فإن معايير قياس التضخم في السودان يجب ألا تتجاهل القوة الشرائية للجنيه السوداني وأن التركيز لمعالجة تغيير نسب ارتفاع الأسعار في السودان يجب أن يبدأ بمعالجة سعر الصرف، و هذا ما عملت حكومة الفترة الانتقالية في السودان على معالجته بطريقة قاسية بحثاً عن الوصول إلى سعر صرف حقيقي للعملة السودانية يعالج اختلالات أسعار السلع و ضعف الإنتاج المحلي».

إجراءات أخرى

في سياق سباق الحكومة السودانية الحالية مع الوقت لوقف التضخم، وتقوية الاقتصاد، أكد وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم عزم بلاده تنفيذ خطط لخصخصة الشركات التي يمتلكها الجيش، وإنه تُجرى محادثات مع دول الشرق الأوسط للمساعدة في تمويل الاقتصاد السوداني الذي يعاني من نقص التمويل، بحسب وكالة بلومبيرغ للأنباء.

وأوضح جبريل خلال حضوره الاجتماعات السنوية للبنك الإسلامي للتنمية في شرم الشيخ المصرية، الجمعة الماضية، أن الحكومة السودانية في طريقها لغلق الكثير من الشركات المملوكة للدولة، وعددها 650 شركة، وخصخصة شركات أخرى.

وأضاف جبريل أن جميع الشركات التجارية التابعة للجيش السوداني سيتم طرحها قريباً للاكتتاب العام، باستثناء تلك التي تنتج أسلحة.