السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

الرواية.. والفعل السياسي

الرواية.. والفعل السياسي
في رسالة إلى لمارتين، قال فكتور هيغو بألم وغضب: «ما دام يحق للإنسان أن يمارس إرادته، فأنا أريد أن أحطم القدر المفروض على الإنسان، أن أدين العبودية، أن أطرد البؤس، أن أضيء الجهل، أن أداوي المرض، أن أنير الليل، أن أمقت الكراهية.. هذا هو أنا، وهذا هو سبب تأليفي للبؤساء».

في تفكيري، ليست رواية البؤساء إلا كتاباً قاعدته الأخوّة، وقمته التطور.. فالرواية جهد إنساني ملحمي، حيث كل شيء يعاد بناؤه وتركيبه، لنا طبعاً أن نرى في الرواية سبيلاً من سبل المتعة، فقد خلقت لذاك أيضاً، لكنها أكبر من مجرد المتعة، وإن كانت هي السبيل الأسمى للتغلغل في الروح الإنسانية، بدون ذلك تبقى الفكرة النبيلة في الهامش ولا تصل.

الرواية فعل الحرية في تساميها ومطلقها ومثلها، لهذا فالرواية تصنع الوجدان، وتهبه ما لا يمكن للخطاب السياسي - المشروط بزمنية ومصلحة يحددهما الظرف المعيش - فعله، كما في الوجدان الفرنسي من خلال كتابات فكتور هيغو في دفاعه عن الحق والنظام العادل والثورة على الظلم، وزولا في انتمائه إلى قيم الاختلاف والعدل والإنصاف، وفلوبير في صراعه من أجل أن يكون للمرأة كما للرجل الحق في جسدها، وبلزاك وهو يفضح النظام الذي بني على الظلم، ومارتين وهو ينتصر للأخلاق العالية أمام الظلم والعبث.


إذاً، الرواية تنقل هذه القيم الإنسانية عبر وسائطها الجمالية التي امتلكتها عبر الزمن، وهي على النقيض من الفعل السياسي المؤقت الذي تحكمه براغماتية نفعية زمنية، تتحول بحسب المصالح والمتغيرات.. قيم الرواية مطلقة ولازمنية وإلا كيف نفسر: لماذا ما زلنا إلى اليوم نقرأ المعري الذي عرى كذبة الإنسانية الوجودية، وهو لا شيء، فكرته من نحن وإلى أين نمضي، ما تزال قائمة؟ ما زلنا نقف وراء التوحيدي وهو يحرق كتبه في آخر عمره، ونقبل جبينه لأن الصدمة علمته أن الأدب خلق ليكون حراً وليس في خدمة الطغاة الصغار.


لماذا نقرأ الالياذة والأوديسة لهوميروس، التي علمتنا كيف نكره الحرب.. فهل كان يجب أن يموت هكتور على يد أسخيلوس نفسه معلناً عن انتصاره، قبل أن يصاب في كعبه بمقتل، بسهم باريس؟

لماذا لم يكن العقل بديلاً عن الدم في طروادة المهزومة، وصبارتا المنتصرة مؤقتاً؟.. لماذا لم تسأل هيلين المختطفة عن رأيها؟ هل تغير عالم اليوم؟ أبداً.. ما تزال لغة الحرب هي السيدة، ووجدان الإنسان يضيق لتعوضه ظلمة قاسية.. ما العبرة من قراءة دون كيخوتي سوى خوض الحرب العادلة دفاعاً عن الحق حتى ولو بدونا مجانين أمام من يرانا بعينيه فقط؟

الأدب لا يحل المشكلات الإنسانية، لكنه يمضي بها نحو الرواية ليعاد تشكيلها، ويجعل منها قيماً إنسانية صالحة للزمن المطلق.. الرواية بهذا المعنى، ليست إلا تراجيديا الإنسان الحديث في مواجهته المصائر الغامضة التي لا يقاومها إلا بما خزّنه من ثقافة تقف الرواية في عمقها.