الثلاثاء - 07 مايو 2024
الثلاثاء - 07 مايو 2024

الهجاء.. و«ميليشيات التواصل الاجتماعي»

عرف العرب فن الهجاء، عرفوه في عصر ما قبل الإسلام (الجاهلي)، وفي صدر الإسلام، ثم بعد ذلك، وإلى يومنا هذا.. عرفنا الهجاء شعراً ثم نثراً، وكانت له طرائق كثيرة، منها أن يتحدث الشاعر عن مفاخره ومفاخر قبيلته، مذكراً بها القبيلة المنافسة أو المعادية، ومنبهاً إلى جوانب القوة لدى قبيلته، ما يفزع الأخرى ويردعها عن التجاوز؛ بالفعل أو بالقول؛ مثل قول عمرو بن كلثوم في معلقته:

إذا بلغ الرضيع لنا فطاما ... تخر له الجبابر ساجدينا

ومن الهجاء يتم الذهاب مباشرة إلى مثالب الطرف الآخر شخصاً كان أو قبيلة، والميراث العربي في ذلك غزير؛ وكان شرط العرب أن يكون الهجاء ملتزماً بالمعايير الفنية والجمالية حتى يصبح «فناً» يعتد به، فلا يتدنى ويهبط إلى ما يطلق عليه شعبياً «الردح» الذي تمجّه النفس ويرفضه الذوق، ولا يسف ولا يبتذل حتى يصير سباباً وقذفاً، بما يجرح الأذن التي تسمعه والعين التي تقرأه، وقد يعاقب عليه القانون ويدخل صاحبه في باب الجريمة أو الجنحة وليس في باب الفن والأدب.


وثبت تاريخياً أن الهجاء الذي يفتقد المعايير الفنية والأدبية يسقط من الذاكرة الجمعية، وهكذا فإن الكثير من هجائيات زكي مبارك بحق معاصريه مثل د. طه حسين وأحمد أمين لا ذكر لها الآن، والهجائيات الحادة المتبادلة بين العقاد والرافعي تم تناسيها؛ بينما انتقاد العقاد وهجائياته لأمير الشعراء أحمد شوقي ما تزال في الذاكرة، ويرجع إليها الدارسون.


وقد آل الهجاء في العقود الأخيرة إلى الإعلام العربي، إذاعةً مع الراحل أحمد سعيد في صوت العرب، ثم فضائيات هذا الزمان، وأخيراً انتقل إلى ما أسميه ميليشيات الفيسبوك والسوشيال ميديا، فهؤلاء في كثير من الأحوال لا يلتزمون بأية معايير أو قواعد مهنية وفنية وأدبية وربما لا يعرفونها، ناهيك عن القيم الأخلاقية والحدود الدنيا لاحترام إنسانية الآخرين؛ وهكذا تحول الهجاء بفضل تلك الميليشيات إلى مجموعة من البذاءات التي تخدش حياء وإنسانية الإنسان؛ وتحاول أن تسقط قيماً إنسانية أو مجتمعية والحاصل أن تلك الغارات من البذاءة دمرت كثيراً من العلاقات والتعاملات داخل المجتمع، وهزت روابط أخوية وتاريخية بين بعض المجتمعات في منطقتنا، ناهيك عن أنها أدت أحياناً إلى فتور في علاقات بعض الدول ببعضها، والكارثة أن تلك البذاءات انتقلت في حالات غير قليلة إلى الشارع، وتكاد تصير لهجة معتادة لدى البعض.