الاحد - 05 مايو 2024
الاحد - 05 مايو 2024

فؤاد عزب.. الملاح الأديب

ما أن تسدل ليلة الثلاثاء أستارها، وتزحف عقارب الساعة نحو منتصف الليل، حتى تجدني متسمّراً أمام شاشة الهاتف، أترقب النشرة الأربعائية لرحّالة من نوعٍ فريد، كاتب استثنائي، حاذق ناسك في محراب بلاغة الكلمة، يذرُك في مهبّ الشوق لكلماته كالطفل التائه عن كنفِ أمّه، يأبى أن يتركنا نجابِه ما بالحياة من تصحّرٍ دون أن يمدّنا بينبوع قلمه وحدائق شغفه.

حالة نادرة أن تترقّب تلك الإطلالة الأسبوعية لكاتبٍ إنسان، وإنسانٍ كاتب، على ما أنت عليه من طواحين الأسفار وصراع مع الوقت يقضُّ مضجعك، هي حالة من الإدمان الإيجابي، أو لعلها فسحة تعيد إنسانيتك إلى جادّتها بعد ما أصابها من تصدّع.

عن فؤاد عزب أتحدث، صاحب الدرجات العلمية الرفيعة والخبرة التليدة في إدارة المستشفيات، والبورد الأمريكي في الإدارة والتخطيط الصحي، مَكيّ الميلاد والنشأة، جِداوي الهوى، تحيطه هالة من الحب، هجر ما تعلَّم إلى التمتع بما أحبّ، بعد أن وصل إلى قناعة أن «المريض القديم أفهم بألف مرة من بعض الأطباء الجدد»، فاستقرّ به المقام في ركنٍ من جريدة عكاظ.


من يعرفه جيداً يدرك أنه «كائن بيتوتي»، كما يقول، يحبُّ هذه البيتوتية أكثر مما أحبت «الخنساء» شقيقها «صخر» يصطف قراؤه ومريدوه - وأنا بالطبع منهم - ليستقوا من بديع ما يخطّ قلمه كل أربعاء، وينهلوا من خلاصة تجاربه، بعضها يبقيك متّشحاً بالأمل، بقوله:«هنا في هذا الشارع تشعر بأن الحياة أبسط مما تبدو، وأقل وحشية مما هي في أذهاننا»، وقوله:«في رحم السواد يقبع الربيع»، فيحيي فيك الأمل وينتشلك ثانية من غياهب اليأس، وبعض كلماته تشفيك وأحياناً تشقيك، كقوله: «بإمكانك أن تكذب بصدق، وليس بإمكانك أن تعاتب الأنهار لِمَ اختارت مجراها ومصبها»، ومن فيض كلماته قوله: «عندما تحمل عصي الثقة، يطيب لك البعاد، وتنبسط الأرض تحت قدميك، وتفتح لك الجبال أبواباً، وتدشن مراعيها، وتسمع غناء رعاة آخرين بلغات شتى، وبقدر اللغات التي تسمعها تحترم لغة مهدك.»؛ يا لرهافة قلب الكاتب! يا فؤاد، هلّا منحتنا من كوكبك بذوراً نغرسها، علّها تسعف كوكبنا المزدحم بحضور الغائبين الشاردين اللاهثين المتناحرين، هلّا أطلقت نداءك فيهم ضاحكاً: «ما بكم أيها المجانين..؟» يا فؤاد، لقد قدمت فكراً وحباً للأوطان، واقتراباً من الإنسان، وابتعاداً عن عوالم الاكتناز والاستحواذ، فيا ليتنا جميعاً هذا الفؤاد..!.