السبت - 04 مايو 2024
السبت - 04 مايو 2024

الحنفيَّة و«الكرنتينة».. ولكنّ المتشددين لا يتعلمون

ذكر رفاعة الطهطاوي في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» أن تونس شهدت جدلاً حول وجود «الكرنتينة» أي الحجر الصحي للقادمين إلى تونس من بلد آخر، والمقصود التأكد من خلو القادم من أي مرض معدٍ قد ينتقل إلى أهل البلد، واتجهت الدول إلى هذه القاعدة بعد انتشار بعض الأوبئة في أكثر من بلد بسبب بعض القادمين إليها من الخارج؛ وهو إجراء بات ضرورياً وينفذ تلقائياً الآن، بأن لا يسمح لمن يسافر إلى أي بلد بالخروج من وطنه دون الحصول على شهادة صحية معتمدة تؤكد سلامته وخلوه من أي مرض معدٍ.

وقد علم الطهطاوي بالجدل الذي شهدته تونس العاصمة؛ حين تم حجزه في كرنتينة مرسيليا سنة 1826 وهو في رحلته العلمية إلى باريس، والذي حدث أن العلامة الشيخ محمد المناع التونسي (المالكي) وكان مدرساً بجامع الزيتونة وضع رسالة في حظر وتحريم الكرنتينة، وقد استند في رسالته على أدلة من الكتاب والسنة النبوية، انتهى فيها إلى أنها من جملة الفرار من القضاء؛ باختصار أن المرض قضاء الله سبحانه وتعالى، وأن محاولة اتقائه ومقاومته هي نوع من الفرار أو عدم القبول بقضاء الله، وذلك دلالة ضعف الإيمان.

لكن في المقابل وضع مفتي الحنفية في تونس رسالة تبيح الكرنتينة، بل وجعلها واجبة واستدل على ذلك أيضاً بأدلة من الكتاب والسنة.


وسوف نلاحظ في هذه القضية وبعض القضايا الأخرى أن الأحناف كانوا يتجهون إلى التيسير والأخذ بما يرونه مفيداً للناس في الحياة الحديثة.. مثلاً قامت في القاهرة معركة حين أرادت مديرية القاهرة أن تدخل أنابيب المياه إلى الجامع الأزهر للوضوء، وبدلاً من أن تكون مياه الميضأة راكدة ومصدراً لروائح لا تستحب؛ تنزل المياه في صنابير، ولكن بعض المتشددين رفضوا ذلك، واعتبروا أن ماء الصنبور لن يكون طاهراً وأن الشياطين سوف تنزل من الصنابير مع المياه، بما يؤثر على سلامة الوضوء، لكن الفقهاء الأحناف رفضوا ذلك الرأي وأجازوها، وعددوا محاسنها، وكان أن تمَّ الأخذ بها، ولذا فإن صنبور المياه يطلق عليه في مصر إلى اليوم الحنفية.


ومن تونس إلى القاهرة، ومن الزيتونة إلى الأزهر الشريف وكل بلادنا، سوف نجد أن كل خطوة حديثة نخطوها، ونأخذ بها، تقتضى جدلاً طويلاً وصراعاً مريراً، وفى كل مرة يثبت أن الاتجاه إلى الحداثة كان الأفضل والأفيد لنا ولمجتمعاتنا، ولكنّ المتشددين لا يتعلمون.