الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

من اللّغة الأم إلى لغة الحاجة

كل اتهام للغة ما بأنها عاجزة عن التعبير هو كلام باطل، لأن اللغة تنشأ أصلاً من منطق الحاجة، فهي تعبير رمزي عنها. بالمقابل، يوجد بشر عاجزون أمام لغة لا تسعف عجزهم الكبير، لأن لغة الكاتب في النهاية هي ما يصنعه هو من رموز ودلالات مشتركة بينه وبين المجتمع.. لغته المتفردة هي ما يؤهله للمحلية والعالمية، وهي التي تكشف عن مواطن قوته وضعفه أيضاً.

الكتابة باللغة الفرنسية مثلاً، موضوع يبدو أنه سيظل حياً أبداً ما دامت الأسئلة الكبرى لم تطرح.. سألني ناشري الفرنسي في سنة 1994 عندما نشر لي بالفرنسية، رواية «حارسة الظلال»، ثم رواية «مرايا الضرير» التي لم تنشر إلى اليوم باللغة العربية، ثم بعدها بسنوات رواية «مضيق المعطوبين»: لماذا لا تكتب باللغة الفرنسية نهائياً ما دمت قادراً على ذلك، وتتفادى المرور عبر الترجمة؟.

قلت له: لدي احترام كبير للغة الفرنسية التي اكتشفت من خلالها كنوزاً أدبية عالمية لم تكن معرفتها ممكنة لولاها، ولهذا فهي نائمة فيّ .. يوم أحتاجها إبداعياً فستستيقظ من تلقاء نفسها، كما حدث معي في بعض الروايات التي كتبتها باللغة الفرنسية مباشرة.


لم يكن ذلك إلا تعبير عن هذه الحاجة الماسة التي جعلتني أتنفس من خلال هذه اللغة عطراً آخر.. التجأت لها مثل بيت ثانٍ عندما وجدتني في مواجهة مع الإرهاب، وكان عليّ أن أمر عبرها لأن الناشر العربي كان خائفاً من المجازفة.


اللغة الفرنسية أنقذتني من الصمت وأدين لها بالكثير مما حصل لي لاحقاً، ومع ذلك يظل الموضوع إشكالياًّ، كما الأمر ههنا يتعلق بحرية التعبير وليس بنقص في اللغة العربية.. العلاقة باللغة الفرنسية مع الجيل الأول جاءت كحاجة تعبيرية، بينما مع الأجيال اللاحقة، فقد اختلف وضعها جذرياً، ونحتاج إلى الكثير من الحذر قبل الحكم على أي كاتب من الخيارات اللغوية.

كل كاتب جزائري باللغة الفرنسية، يطرح السؤال الكبير على نفسه: ماذا يمكن أن أضيف إلى ما كتبه محمد ديب، وكاتب ياسين، ومولود معمري، ومالك حداد، وجون عمروش، وآسيا جبار، وغيرهم؟.. هذا هو السؤال المركزي وإلا فما جدوى تسويد الأوراق؟.. اللغة الفرنسية كانت بالنسبة لهم غنيمة حرب، كما قال كاتب ياسين، جيل كتب باللغة التي يتقنها جيداً، والأمر نفسه يمكن أن يقال عن الجيل اللاحق مثل: رشيد ميموني، والطاهر جاووت، ومايسة باي وغيرهم.، إذْ أعطوا للرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية إيقاعاً جديداً ونفساً آخر أكثر ارتباطاً بأزمات العصر.

الكتابة باللغة الفرنسية أو بغيرها مرتبطة أصلاً بالإتقان، لأننا في النهاية نكتب باللغة التي نوصل بها حواسنا وعواطفنا بقوة، وأن نكتب بلغة ونعادي لغة أخرى حتى ولو كان مشتركنا التاريخي معها قاسياً، لا يمكن تصنيفه إلا في خانة العنصرية اللغوية، فاللغة حاجة إنسانية، والبشر هم من يعطونها التوجه الأيديولوجي الذي يريدون.