الاحد - 19 مايو 2024
الاحد - 19 مايو 2024

حلقات زحل

ما هو مفهوم الرحلة؟ خصوصاً إذا ما كان مرتادها في هذه المرة كاتبٌ، مأخوذٌ بالملاحظة؟.. لعل هذا السؤال حول معنى الرحلة وما حولها هو ما بقي يدور ببالي وأنا أتأمل طريقة الألماني «ف.ج زيبالد» في سرد الرحلات التي قام بها خلال فترات متنوعة من حياته.

وعلى خلاف تدوينات الرحلات المعتادة يبدأ زيبالد أول تدويناته من وصف لغرفة في مستشفى، هو يتأمل العالم الخارجي من نافذة علوية، حيث تعبر السماء يومياً بتحولاتها المختلفة، ومن النافذة يأخذنا إلى فضاء حيوي أوسع، ليبدأ تمشيته التي تكف عن كونها مجرد تأمل جغرافي، لتكون تأملاًّ ذهنياًّ أكثر، ودائرة بعد دائرة تتوسع حلقات الرحلة التي يتقاطع فيها رفاق «زيبالد» وآخرون ممن أحاله المكان الذي تواجد فيه تجاه سيرهم.

اللافت كما ذكرت، أن رحلات زيبالد كانت دائماً على هيئة دوائر فهو لا يسير في خط مستقيم أبداً، لكأنه يبطن لك عبثية الفكرة القائمة على نهاية الرحلة وعبثية الوصول الحتمي، وهكذا ودون أن تشعر تأخذك الحلقات معها وتجعلك تتغذى بالمعلومات والانطباعات، ببراعة هي أقرب للتقطيع السينمائي مداخلاً بين سير المكان وإنسانه، ومسائلاً في صدق الحدث التاريخي.


ولعل أحد أبرز التأملات التي لا أنساها لزيبالد في رحلته، التي تلخص بشكل واضح فكرة رحلة الدائرية «حلقات زحل» هو تأمله عند نصب واترلو التذكاري، وهو يشرح كيف تظهر المنطقة المحيطة عند أعلى النصب بقرب تمثال الأسد، الذي ينتصب كمن يؤكد بشكل واضح على جنائزية المكان، ما جذب زيبالد حينها هو اتساع المنطقة حول النصب الدائري ليكون دوائر تتسع أكثر فأكثر، دوائر تتقاطع فيها المصائر، وتسمع من خلالها تأوهات القتلى، دوائر تؤكد استمرارية المكان في ثباته لاستقدام وجوه جديدة لإكمال رحلة التاريخ، حلقة أخرى، مضيئة كانت أو معتمة.