الجمعة - 03 مايو 2024
الجمعة - 03 مايو 2024

أزمة الهوية العربية الحديثة

في توصيفه المثير لعالم ما بعد الحداثة بيّن الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليتوا: «إنه عالم قائم على انهيار السرديات الكبرى واستبدالها بالسرديات المضادة أو المؤقتة»، والمقصود بالسرديات هو التصورات المتماسكة والمقولات الراسخة التي تؤسس للوعي الثقافي الجمعي، وترسم صورة الذات والآخر والصور النمطية عن الثقافات وعن الشعوب، وضرب لذلك مثلاً أفكار التحرر والماركسية والتنوير التي رسخت مقولات الحداثة، والتي تزعزعت الثقة فيها بعد الحرب العالمية الثانية وبعد ثورة الطلاب في فرنسا.

لا شك في أننا نعيش زمن سقوط الأيديولوجيات والأفكار الشمولية الوثوقيَّة، التي قيل يوماً ما أنها تفسر الواقع وترسم أفق المستقبل.

وعلى الرغم من أن المجتمعات العربية هي أقل المجتمعات قدرة على إنتاج سرديات فلسفية متماسكة (غير دينية)، فنحن بيئة مستهلكة للفلسفات وللسرديات منذ قرون طويلة، إلا أن العالم العربي ولأسباب تتعلق باتساع الرقعة الجغرافية والتنوع البشري يعيش اهتزازاً خطيراً في بنية سردياته الكبرى لم يعشه منذ خروج الدين الإسلامي من نطاق شبه الجزيرة العربية.


في لقاء متلفز مع إحدى الأكاديميات العربيات المقيمات في فرنسا، سأل المذيع الأكاديمية: كيف تجدين صدى دراساتك في العالم العربي؟ فأجابت: أنا لا أعترف بشيء اسمه عالم عربي، هناك فقط شعوب ناطقة بالعربية!


وفي لقاء آخر مع أحد الأكاديميين والناشطين الأمازيغ، وفي معرض دفاعه عن اللغة والثقافة الأمازيغية قال: إن المغرب ليس عربياً، فالعرب هم الأقلية في هذا الإقليم!

وعند مناقشتي لانفصال جنوب السودان مع أحد الشعراء السودانيين، فاجأني بقوله: نحن في الشمال كنا نرغب أيضاً في الانفصال، فسكان جنوب السودان يختلفون عنا لوناً وقبائل ولغات وديانات، إنهم لا يشبهوننا حتى في الشكل! وعلى أحد الحسابات الإلكترونية، وفي جدل حول انفصال جنوب اليمن عن شماله، قال أحدهم: أنا لست يمنياً، أنا هاشمي من الجنوب العربي، والهوية اليمنية لا تمثل الجنوب ولكنها فرضت قسراً عليه!

هذه الفوضى في إدراك الذات، والعودة لتأويل التاريخ، وتزامناً مع مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي فجر الهويات الفرعية تمهيداً لإعادة رسم خرائط المنطقة، تضع العرب أمام أزمة خطيرة وهي أزمة الهوية، حيث تتم العودة إلى الأسئلة الوجودية الأولى للأمم: من نحن؟ من أين أتينا؟ وكيف تشكلنا؟.. فهل آن الأوان للعرب ليعيدوا رسم هوية جديدة لهم تتجاوز الانتماءات الضيقة، إلى مظلة قادرة على استيعاب وإرضاء جميع المكونات التي تقطن المنطقة العربية؟ وهل صار العرب بحاجة إلى حالة أممية شبيهة بالحالة الأمريكية والحالة الأوروبية الحالية؟