السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

زمن الأقدام.. وليس زمن الأقلام

زمن الأقدام.. وليس زمن الأقلام
كنت بصحبة كاتبنا الكبير توفيق الحكيم هابطين في المصعد من مبنى الأهرام العريق، وكان معنا واحد من نجوم كرة القدم في مصر.. وحين نزلنا إلى الشارع تجمع المارة بالعشرات أمام المبنى، والتفوا حول لاعب الكرة بينما لم يلتفت أحد إلى أن توفيق الحكيم ليس بعيداً من اللاعب، وبدأت دوائر الناس تتسع حول اللاعب الشهير وانسحبت مع كاتبنا الكبير لكي نستقل السيارة معاً ونمضي.

نظر توفيق الحكيم إلى الحشود التي أحاطت باللاعب، وقال: ألم أقل لك: إن هذا زمن الأقدام وليس زمن الأقلام.

ومع الأيام تأكدت مقولة توفيق الحكيم، وحين أشاهد الآن سوق الثقافة في العالم العربي، وبجانبه أسواق كرة القدم أتساءل عن هذا التوازن الغائب ما بين احتياجات العقل وضرورات الجسد، خاصة أننا بالفعل أصبحنا أمام مجتمعات تفكر بأقدامها.


حين ننظر إل سوق الثقافة والإبداع في عالمنا العربي وأحوال المبدعين، وما يعانون منه من التجاهل والاغتراب والوحشة ما بين الهجرة والحاجة ومطاردات السلطة، نشعر بحزن شديد، على خلفية أن المبدع يفني سنوات عمره يكتب رواية أو ديواناً أو مسرحية، ويتلقَّى المطاردات من كل جانب، بينما هدف واحد يحرزه اللاعب يقلب كل موازين الأشياء، وفي الوقت الذي تتدفق فيه الملايين على رأس اللاعب، فإن المبدع يقضي الشهور مريضاً في أحد المستشفيات ينتظر من يدفع له نفقات العلاج.


لا بد من أن نعترف بأن كرة القدم أصبحت تجارة عالمية وأن النوادي الرياضية تتنافس في شراء وبيع اللاعبين، ولديها استعداد لأن تدفع الملايين، وترى عشرات الفضائيات تلهث خلف حديث مع لاعب، بينما لا تجد عليها رمزاً ثقافياً واحداً يتحدث عن تاريخه وأعماله ومشواره في الحياة.

إن الإعلام الآن يجري وراء مطرب قبيح الصوت أو لاعب أحرز هدفاً بالصدفة بينما عشرات ومئات المثقفين، الذين أضاؤوا عقول أوطانهم هائمون في الأرض ما بين المعاناة والاغتراب والوحشة ومطاردات من يملكون سلطة القرار.

كانت حكاية توفيق الحكيم منذ سنوات ويومها لم تكن الموازين قد اختلت كما هي الآن، ولم تكن الملايين في العالم العربي تخرج إلى الشوارع خلف لاعب محظوظ، ولكننا الآن أصبحنا نعاني من سيطرة كرة القدم على العقل العربي.

لا أنكر أننا أمام ظاهرة عالمية اسمها جنون الكرة، ولكن في بلاد العالم يضعون كل شيء في مكانه ومكانته.. إنهم يهتمون بكرة القدم ولكنهم يضعون المبدعين ورواد الفكر في مكانتهم تقديراً ورعاية وأمناً.. ليس المطلوب أن يتساوى لاعب الكرة مع مبدع كبير ولكن المطلوب أن نعيد للإبداع مكانته.

إن الأمم لا تعيش على أقدام لاعبيها ولكنها تعيش على فكر مبدعيها، وحين فرطنا في الثقافة وأصبحت لغة الأقدام تعلو على لغة الأقلام أطاحت بنا حشود الإرهاب والتخلف والظلام.

أعيدوا للقلم مكانته بين الناس ومع أصحاب السلطة والقرار لأن الله سبحانه وتعالى بدأ قرآنه الكريم بقوله تعالى: «اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم».