الاحد - 05 مايو 2024
الاحد - 05 مايو 2024

دفاتر اليسار التونسي القديمة

دفاتر اليسار التونسي القديمة

عبدالجليل معالي

في غمرة الأحداث السياسية المتسارعة في تونس على وقع الانتخابات الرئاسية والتشريعية، يبدو اليسار التونسي الخاسر الأكبر من تصدعات كثيرة أصابته، ومساهماً رئيساً في انهيار التوازن السائد في البلاد.

في الأيام الأولى التي تلت الثورة، بدا اليسار التونسي المؤهل الأول لقيادة المرحلة الجديدة، وكان ذلك نابعاً من أسباب متداخلة، بدءاً من عقم الخيارات اليمينية التي انتهجتها تونس منذ الاستقلال على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وصولاً إلى مرابطة التيارات اليسارية عند مواقع المعارضة، مروراً بالمصداقية التي اكتسبتها تلك الأسماء والتيارات على الأقل من ناحية تشبثها بالمعارضة المدنية السلمية رغم ما عانته من سجون وتضييقات.

لكن ذلك اليسار المدجج بكل تلك الشرعيات، تفنن في تبديدها، واليوم ومع الأزمة التي تعيشها الجبهة الشعبية، فإن ذلك اليسار لم يلحق ضرراً ببنيته وتنظيماته ومستقبله فقط، بل ألحق خدوشاً بارزة بمستقبل البلاد بأسرها، من ناحية مساهمته في اختلال التوازن السياسي لمصلحة قوى الإسلام السياسي، وحركة النهضة تحديداً.


لم تترجل الأحزاب اليسارية من أدبياتها العتيقة رغم التغيرات التي طالت البلاد والعالم، وكانت في ذلك شبيهة بالتيارات الإسلامية التي أبت فك الارتباط مع أدبيات إخوانية وسلفية تعود إلى النصف الأول من القرن الماضي.


فالجبهة الشعبية كانت ضحية تجاذبات سياسية موسومة بالشخصانية والتشبث بالكراسات القديمة، أكثر من السعي للتجذر في البيئة السياسية الراهنة.

إن خلافات الجبهة ودواعي تصدعها نابعة من غياب الديمقراطية الداخلية، ومن عدم حسم هويتها، فهل هي حزب أم ائتلاف أحزاب؟

لم تتوصل الجبهة إلى تشكيل حزب كبير ولا إلى البقاء في رشاقة الائتلاف السياسي الذي يتيح الحركية الداخلية والوفاء للحد الأدنى المشترك، ولذلك حفلت الخلافات بين حزب العمال، وحزب الوطنيون الديمقراطيون الموحد مثلاً، بمصطلحات مشتقة من القاموس الماركسي القديم، خاصة أثناء الخلاف حول الانضمام للحكومة من عدمه، فظهرت مصطلحات «الدخولية»، و«الانخراط في الحكومات البورجوازية والرجعية»، و«التكتيك» وغيرها، وهي مفردات من قواميس قديمة واظبت أطراف الخلاف على استعمالها أدوات للتراشق الفكري والسياسي.

إن الندوب التي أصابت وجه الجبهة طالت جلّ المشهد التونسي، حين تأخرت عن دورها المعارض، وحين ركزت مثل الأحزاب التونسية على الاستحقاق الرئاسي، تاركة الميدان التشريعي ومركز السلطة لآلة النهضة التي تتقدم للهيمنة عليه بكل قواها.

وركنت أحزاب الجبهة الشعبية إلى دفترها القديمة، وتركت البلاد نهباً لحركة النهضة التي سعدت باستبعاد منافس سياسي قوي، كان بإمكانه أن يمثل معارضة حقيقية لهذا المد الجارف.