السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

بائعة المناديل.. العثور على الإنسان العفوي

في المظاهرات الأخيرة التي شهدها العراق، وتحديداً العاصمة بغداد، شاهدنا ذلك الفيديو الشهير لامرأة فقيرة تبيع المناديل الورقية في الشارع، وهذه المهنة ربما هي أفقر مهنة يعرفها العالم.

تصادف وجود تلك المرأة ذلك النهار مع اندلاع المظاهرات في ساحة التحرير، ولما كانت الحكومة قد استخدمت أعنف الوسائل في الرد على المحتجين، حلقت أرواح عدد كبير من الشاب نحو السماء وجرح عدد كبير منهم.

نسيت المرأة رأس مالها الوحيد وقوت يومها، هرولت نحو هذا المجروح وذاك المصاب تقدم بضاعتها مجاناً، وهي ملهوفة غير عابئة بخطر الرصاص والقنابل المسيلة للدموع، فكانت تجري بينهم كأم وأخت بدون أن تلتفت لعدسات الهواتف التي تطاردها.


حتى تلك اللحظات، لم تكن هذه المرأة المفعمة بالإنسانية تدرك أنها ستصبح أيقونة ومثالاً إنسانياً مدهشاً، لم تكن تدرك ذلك ولا تريده، لكنها تصرفت فقط مدفوعة بحسها الإنساني الرفيع، الذي هذبه الفقر لتشعر بمن حولها من الفقراء والمسحوقين، وهم يهتفون بأعلى صوتهم، وللأسف كان صوت القنابل المسيلة للدموع وصوت الرصاص الحي أعلى من أصواتهم.


الطريقة التي تحركت بها بائعة المناديل، وهي تركض نحو سيارة إسعاف توقفت للتو قريباً منها، لتساعد قدر إمكانها كانت شيئاً من الماضي الذي نسيناه، كأننا نرى إنساناً جديداً لا يعرف عن السوشيال ميديا شيئاً، ولم يتأثر بضغط عصر الصورة القصدية أو المتوقعة.

هذه المرأة تتصرف داخل عالم ليس فيه للكاميرات وجود، ليس لديها هاتف نقال ولم تسمع بتطبيق إنستغرام، هذه المرأة تفكر بهامش الربح القليل لكي تعود إلى بيتها تتأمل فقرها كل يوم.

سألها مذيع إحدى القنوات العراقية بعد أن بحث الناس عنها: وماذا تتمنين؟، قالت ببراءة: أن تكون لدي عربة للبيع، لا أريد أن أخرج للشارع وأتجول مرة أخرى ثم سالت دموعها.

المظاهرات التي عدتها الحكومة كالعادة مؤامرة دولية وإقليمية، كانت كافية لتحدث فقط من أجل بائعة المناديل الورقية، من أجل هزيمتها في الحياة، من أجل دموعها وتلك الرحمة المعجونة بروحها.

هذه المرأة هي أكبر الأدلة على عدالة قضية الشباب الذين واجهوا الرصاص الحي بأعلام بلدهم، وصدورهم الغاضبة، ووعيهم الاستثنائي، قالوا بصوت واحد: نريد وطناً، وهذا الوطن الذين يقصدونه؛ هو البلاد التي لا تحتاج إلى أن تحلم فيها بائعة المناديل الورقية بمجرد عربة!