الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

كل تطور مفيد يكون له جانب مظلم.. ولكن

فاطمة المزروعي

سعى الإنسان منذ فجر تاريخه إلى إيجاد الوسائل والطرق من أجل مساعدته على التغلب على ظروف حياته البدائية القاسية. في ذلك الزمن كانت الحاجة للبقاء هي الدافع للعمل والابتكار، لذا اخترع أدواته من الحجارة وعظام الحيوانات وأغصان الأشجار، وتبعاً لذلك اخترع الرماح والسهام لتساعده على الصيد ومطاردة الفرائس والدفاع عن نفسه من الحيوانات المفترسة والمتوحشة.

منذ تاريخ البشرية الأزلي وحتى يومنا، كانت ابتكارات الإنسان واختراعاته تبدأ من الحاجة وتنتهي عند الرفاهية والكماليات، إلا أن بعض الاختراعات والاكتشافات النبيلة المفيدة تحولت إلى كابوس إنساني بحق مثل اختراع الديناميت في عام 1867م على يد المهندس الكيميائي ألفريد نوبل، الذي كان غرضه من هذا الاختراع تقديم المساعدة في حفر المناجم وتعبيد الطرق وشق القنوات المائية، إلا أنه سرعان ما استخدم في القتل والهدم، عندما تم تطويره ليصبح جزءاً أساسياً في الصناعة العسكرية التي أبادت الملايين من البشر منذ اكتشاف الديناميت وحتى اليوم.

جميعنا يعرف أن ألفريد نوبل، وكتكفير عن هذا الانحراف الخطير، وضع جزءاً كبيراً من ثروته تجاوز النصف لتأسيس جائزة حملت اسمه وباتت كما نعرف جائزة عالمية في فروع الأدب والطب العلوم والسلام.

بعد ذلك جاء اكتشاف الطاقة النووية التي تعتبر رخيصة نسبياً ومفيدة في توليد الطاقة الكهربائية حيث إن وقودها منخفض الكلفة، حتى تحولت إلى سلاح فتاك ومدمر. ونعرف جميعاً قصة إلقاء القنبلة النووية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين عام 1945 والتي قتلت في ومضة سريعة نحو 66000 شخص، وجرحت وسببت العاهات لـ 69000 آخرين، بواسطة التفجير الذي بلغت قدرته 10 الآف طن، والأرقام السابقة تتعلق فقط بمدينة هيروشيما، أما نجازاكي فقد قدر عدد الضحايا بأكثر من 80 ألفاً.

ليست هذه المجالات وحسب التي نزفت الإنسانية خلالها بسبب الابتكارات وتطورها، فقد حدثت تحولات عجيبة في تفكير واهتمام الإنسان نفسه بسبب عوامل التطور الاقتصادي والتقني والتجاري والتعاملات اليومية، فالثورة الصناعية في أوروبا التي انطلقت في القرن الـ19 أدت إلى قيام النظام الرأسمالي الذي أصبحت معه الملكية الفردية وسلوكها الاستثماري قيمة مقدسة، وبالتالي فإن ذلك النظام فتح الكثير من المجالات لكي يستغل الإنسان قدراته في زيادة ثروته وحمايتها من الاعتداء، فأصبحت حياة الفرد محمومة ومفعمة بالصراعات والتنافس من أجل المادة.

كل تلك التطورات قست على الفرد وجعلت منه آلة لا أكثر، ووسط هذا التهافت والسعي المتواصل طحنت الإنسانية، ما أصاب علماء الآداب والإنسانيات والنظريات بالذهول للحال المتردي الذي وصل إليه الإنسان، فبدأ الكثيرون في دراسة الطبيعة الجديدة للإنسان ومجتمعه ودراسة تلك المصانع، ومن هنا بدأ علم الاجتماع في الظهور الذي تطور على يد أوجست كانط الذي أرسى بدايات العلم وسط زخم الثورة الصناعية في أوروبا، وكان هدفه معالجة مثل هذا الخلل الإنساني، ثم تطور علم الاجتماع استجابة للتغيرات والمشكلات الاجتماعية في مرحلة الانتقال من النظام القديم إلى النظام الجديد.

وكما ذكرت فإن كل تطور مفيد يكون له جانب مظلم في تاريخ البشر، فلم يمض الكثير من الوقت حتى بدأت الآلة تلغي الإنسان وتحل مكانه، ما سبب تزايد أعداد البطالة وتشرد الكثيرين ونمواً غير طبيعي في أعداد الفقراء، وبرغم هذا كانت الآلة أكثر دقة وإنتاجية فكثرت الموارد الاستهلاكية حتى تلك التي قد لا يحتاجها الفرد، فأنتجت الآلة أكثر مما هو مطلوب منها لذلك تعود الإنسان على الاستهلاك غير المبرر أو الضروري والصرف على الكماليات التي لا حاجة له بها.. ورغم كل هذه الضبابية التي سقتها، فإن البشرية بأسرها ودون كل هذه التطورات، كانت ستعيش في وضع أكثر قسوة وفي حروب مميتة بشكل مذهل وتنافس على الموارد لا تنتهي ولا تتوقف.

التطورات والمخترعات هي التي أوصلتنا إلى نتائج طبية مذهلة أمدت في عمر الإنسان، ومنحته العلاج وحدت من الآلام، وهذه المخترعات هي التي قربت البعيد وجعلتنا وكأننا نعيش في قرية صغيرة، ومؤمنة بأن هذا النهم المعرفي والرغبة في التطوير ستستمر، وأن البشرية ستعالج زلاتها وأي خطاء وقعت فيها، بسن القوانين والمزيد من الرقابة ونشر مظلة العدالة الدولية.