الأربعاء - 08 مايو 2024
الأربعاء - 08 مايو 2024

السيرة الذاتية بين الإبداع والفضيحة

لم تكتمل فصول الإنتاج الأدبي الإنساني في عالمنا العربي، أو على الأقل لم تحظ بعض الأنواع بالاهتمام والإنتاج الذي تستحقه، فالأجناس الأدبية التي اعتدنا عليها كالشعر والقصة القصيرة والرواية والمسرح ونحوها، بقيت في حيز محدد، يتم تداولها والكتابة في إطارها دون أن نشاهد دخول نماذج أدبية مشهورة ومتعارف عليها في العالم بأسره مثل النوفيلا، وهي ما يعرف بالرواية القصيرة أو القصة الطويلة، وكذلك الحال بالنسبة لمجال أدبي عريق يعد من أقدم النماذج الأدبية في العالم، وهو كتابة السيرة الذاتية. وعلى الرغم من أن هذا الفن الأدبي موجود في تاريخنا العربي، حيث كانت الذاكرة العربية في عصورها المختلفة حتى ما قبل الإسلام تقوم على القصة وما يحكى عن الأشخاص والأبطال من أحداث ومواقف، فإنه أيضاً وجدت نتائج مذهلة لكل من نبش وتعمق في التاريخ العربي حيث وجده من أعمق الأمم تأثراً بفن القصة والذي حمل في كثير من دواخله وجوانبه قصصاً ذاتية تعتبر سرداً لسير ذاتية لأبطال وأشخاص معروفين حتى يومنا هذا.. بل أن العمق الزمني للقصة العربية حمل لنا كثيراً من الحكي الذي جاء على لسان أبطالها أو أصحاب القصة أنفسهم وهم يروون عن واقعهم وحياتهم. لكننا تخلينا عن هذا الفن الأدبي العريق مع امتداد العيب ومفاهيم الفضيحة.

وأعتقد أن هذا جميعة حدث مع التراجع الحضاري والمعرفي الذي ضرب الأمة العربية في حقب زمنية ماضية، حتى بتنا نرى ونشاهد حركة أدبية خزيرة ومتحركة في بلد مثل الولايات المتحدة –عمره لا يتجاوز الـ250 عاماً، التي يبشر أدباءها بأن المستقبل للتأليف وكتابة السيرة الذاتية، ويجد هذا النوع الأدبي إقبالاً جماهيرياً بالغاً، واهتماماً نقدياً واسعاً. فما هي السيرة الذاتية؟ هذا الجنس الأدبي الذي سقط لوهلة من ذاكرتنا العربية، يقول المؤلف فليب لوجون في كتابه ميثاق السيرة الذاتية:«أنها حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة»،

إذن هو فن يقوم على الشفافية والوضوح والذاتية، وهي عناصر أعتقد أنها سلاح كل من أخذ على عاتقه الكتابة والتأليف، لطالما انزعجت ومثلي العشرات من المؤلفين والملفات في المجال الروائي عندما يطرح علينا سؤال هل روايتك سيرة ذاتية لحياتك؟!.. فسرعان ما نقوم بالنفي والشرح والتعليل، وأن روايتنا ليست سيرة ذاتية وإنما تخيلات وتأليف لا أكثر لا تمت لحياتنا بصلة، ودون أن نعلم أو ندرك أننا بهذه الممارسة أسقطنا قيمة إنسانية عن منجزاتنا الروائية ونحن نجردها من الحميمية والالتصاق بحياة صانعها ومؤلفها.



ولعلّ صدق كتابة السيرة الذاتية والتأليف في هذا المجال هو الذي جعلها محل إشادة لتميزها وسر إبداعها، وهذا الجانب هو الذي لمسه الروائي الراحل عبدالرحمن منيف، في كتابة رحلة ضوء، عندما قال:«أن السيرة الذاتية كصيغ كتابة، لها سحر آسر لكاتبها وقارئها معاً». إذ بالإضافة للخصوصية فهي في أغلب الأحيان منطلقة حرة سلسة، وفيها كم غير قليل من التفاصيل الحارة وفي بعض الأحيان الساخنة باعتبارها اعترافاً قبل كل شيء، ولأنها استعادة لحياة كانت ذات يوم بكل ما حفلت به من متع وخيبات وجروح وما مازجها من رغبات وأحلام.وفي ظني أن هذا هو مكمن الجرح وسببه، فقد وضع هذا الروائي المبدع يده على الجرح، فهنا نبتعد عن هذا الفن الأدبي لأنه يتناول الخصوصية وفيها تفاصيل حارة وساخنة وفيها اعترفات. يظهر أن عقليتنا الحديثة لم تستوعب حقائق الزمن وسر تبدله، فلم نقوَ على الصدق والوضوح والشفافية، رغم أننا كمؤلفين نحمل قيماً تختلف عن الآخرين، لكننا حتى اليوم في خشية من البوح والاعتراف وكتابة سيرة ذاتية، لا تمجيد فيها، بل بوح إنساني رقيق حميم مع القارئ وحسب.