الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

سطوة الكهف المظلم وواقعنا اليوم

دائماً هناك سؤال، ونادراً ما يتبعه جواب، كأننا نعيش في منظومة تسيطر على أسلوب تفكيرنا وتحدد لنا ما يجب أن نعرف وما لا يجب أن نعرف.. تظل الحقيقة غارقة في عالم لا يُسمح لنا أن نشد رحال أذهاننا إليه.. علينا فقط أن نستقبل المعلومات الموجهة لنا بغض النظر عن جذورها، بغض النظر عن مصداقيتها والشوائب التي تحيط بها، ولكن ما هو الثمن الذي سندفعه في حال اعترضنا على هذا القدر وقررنا أن نجد الحقيقة المطلقة العارية من كل التحيزات والتوجهات؟ هل سيتقبلنا المجتمع؟ هل سيظل أصدقاؤنا وأحبابنا برفقتنا أم أنهم سيشعرون بالريبة منا وعدم الأمان؟ هذا ما تطرق له أفلاطون خصوصاً ما جاء في كتابه السابع من سلسلة كتبه «الجمهورية»، تطرق في هذا الكتاب لِما يسمى بأسطورة الكهف، حيث يعيش الناس في كهف مظلم مقيدي الأطراف والرأس غير مسموح لهم بالالتفات، يحدقون بجدار تعرض عليه ظلال بسبب النار التي تلتهب خلف ظهورهم وتمر الأشكال أمام هذه النار فيُعرض ظلها على الجدار الذي يتأمله الأسى، ولكن تم إطلاق سراح أحد الأسرى والتفت أخيراً ليرى النار ويُصاب بالذهول ولكن سرعان ما اندثر ذهوله من النار عندما خرج من الكهف وأبصر العالم الحقيقي، العالم كما يفترض أن يكون، تضيئه الشمس ويمتد للأبد، وتأمل هذا الأسير تلك الأشكال التي تبدو ثابتة وملونة وجميلة ومحايدة، وتذكر عندما مرت تلك الأشكال أمام النار وعُرِض ظلها على الجدار، كيف كانت تتبدل، فمرة تظهر طويلة ومرة قصيرة ومرة داكنة ومرة فاتحة، أدرك ذلك الأسير الحر أن ما يعرض على جدار الكهف ليس حقائق، بل زيفاً كاملاً! فالحقائق ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير ولا تنحاز ولا تشوبها أية شائبة. لذلك أخذ على عاتقه العودة للكهف وتحرير المساجين، ولكن الظلام بالداخل جعله يترنح ويفقد توازنه مما جعل الناس يعتقدون أنه مجنون، وعندما أخبرهم عن العالم بالخارج وعن الحقائق الجميلة والتي تنيرها الشمس، تضايقوا منه واعتبروه موسوساً وأمروه أن يصمت وإلّا سيقتلونه. في كهف أفلاطون، حيث تتراقص ظلال الزيف، عاش فئة من الناس يرفضون المعرفة والحقيقة، راضين بعبودية أذهانهم لفكرٍ ما وتوجّه ما.. انظر جيداً لعالمنا اليوم، حيث يرهن أناس عقولهم للظلام ويقذفون أنفسهم للتهلكة من أجل فكرة غريبة مميتة، يطلبون الشهادة بقتل الآخرين بعمل جبان إرهابي، أليسوا ممن تراقصوا مطولاً أمام الظلام والظلال، فلم يرغبوا بمعرفة حقيقة العالم والوجود والمحبة، فخسروا أنفسهم أولاً حيث عاشوا في توتر وغضب وكراهية، ثم خسروا حياتهم بشكل مؤذٍ وقاسٍ ومؤلم.

انظر لواقعنا عبر شبكة الإنترنت وتحديداً مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تتراقص أصوات وأقلام لا وظيفة لها سوى أن تحيك الكراهية، وتغذي الأحقاد، ونشر الطائفية والعنصرية، تدعو للقتل وسفك الدماء البريئة، أليست هذه النماذج خير مثال لسكان الكهوف المظلمة، والذين يتشدقون بالحرية والسعي نحو الرفاه، وهم يقتلون كل خصلة نقية ويمقتون البياض ويحولونه إلى سواد حالك يملأ القلوب أولاً ثم المكان.

جولة بسيطة على حسابات الكراهية والحقد في مواقع التواصل الاجتماعي، تثبت لك حقيقة جديرة بالتمعن والتفكير، وهي أنه مهما تطورت وسائل الإنسان وقدراته، والتي من الممكن أن تسهل حياته وتدفع به نحو التطور والتقدم، إلّا أن هناك فئات تأبى وترفض إلّا أن توظف كل تقنية جميلة مفيدة لتكون نقمة وأداة ظلم وجور على الآخر.. لتبقى المشكلة الأزلية باقية وهي أن ساكني الكهوف، لا يريدون مغادرتها...