الجمعة - 03 مايو 2024
الجمعة - 03 مايو 2024

التداعيات الاقتصادية للغزو الروسي لأوكرانيا

هناك مسألتان تؤرقان مضاجع المستثمرين وتحركان الأسواق والاقتصاد، إحداها ما الذي سيقوم به البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لكبح جماح أسعار الفائدة، والثانية هي الغزو الروسي لأوكرانيا!

تحتشد القوات الروسية على طول الحدود الأوكرانية مهددة بالغزو. خطر جيوسياسي بدأت بوادره تلوح على أسعار النفط والسلع والأسواق، وعادة ما تكون التوقعات التقليدية هي أن يزداد الطلب على أصول الملاذ الآمن كالذهب والدولار والفرنك السويسري وسندات الخزينة طويلة الأجل فضلاً عن ارتفاع في أسعار النفط والغاز.

ولكن هناك منظور آخر لهذا الصراع وهو ما تضمنته التهديدات الأمريكية باستخدام عقوبات انتقامية ستجعل الغزو- لو حصل- فاتورة باهظة التكاليف على الاقتصاد الروسي. فيما يلي شرح لما يمكن أن تحدثه هذه العقوبات لو نفذت.

العقوبات الأمريكية

تعتزم الولايات المتحدة وحلفاؤها فرض عقوبات على روسيا تتجاوز بكثير تلك التي تم تطبيقها في عام 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم، وستكون موجهة نحو أكبر المؤسسات المالية الروسية التي تعتمد على التحويلات المالية العالمية وذلك بمنع وصولها إلى نظام سويفت للتحويلات بين البنوك العالمية بما يسمى عرفاً «القنبلة النووية المالية».

تداعيات العقوبات

لن تتمكن البنوك الروسية من تحويل الأموال باستخدام نظام سويفت العالمي. ربما يصل الأمر إلى قطع تعاملها بالدولار واليورو، ومن شأن ذلك أن يحدث هزة كبيرة للاقتصاد ويتسبب في انخفاض حاد في قيمة الروبل ويضعف القوة الشرائية للمواطن الروسي بشكل أشبه بما حدث بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وسيخلق ذلك عقبات تجارية بالغة الحدة للشركات الروسية فيما يتعلق بمدفوعاتها أو بتلقي الأموال مقابل عمليات الاستيراد والتصدير.

في الوقت نفسه، إذا قطعت إدارة بايدن وصول البنوك الروسية إلى الدولار، فإن ذلك من شأنه أن يعطل روابط البلاد ببقية العالم ويؤدي إلى انكماش حاد في الناتج المحلي الإجمالي الروسي، إذ تتم تسوية معظم التجارة العالمية، بما في ذلك مبيعات النفط والغاز التي تشكل خُمس إيرادات روسيا بالدولار الأمريكي، والآثار الجانبية لهذا كبيره من ضمنها هروب رأس المال وانهيار الروبل والتضخم المرتفع.

روسيا ستضطر إلى الاعتماد على نظام التحويلات الداخلي واسمه مير، ولكنه لن يدعم التحويلات خارج النظام المصرفي الروسي، فالبنوك الروسية تجد صعوبة كثيرة حتى بدون العقوبات في الحصول على خطوط ائتمان مع البنوك دوليه، وهكذا لن تتمكن البنوك الروسية كذلك من إصدار بطاقات الائتمان لعملائها إذا تم قطعها عن نظام الفيزا وماستركارد مما سيشكل عقبة كبيرة لمدفوعات الأفراد والشراء الإلكتروني وسيشكل خسارة كبيرة لصناعة المدفوعات الاستهلاكية.

حظر التكنولوجيا وإمدادات الطاقة

إيقاف صادرات التكنولوجيا الخاصة بصناعات الطيران والأسلحة الروسية، وربما حظر تصدير أي سلع استهلاكية إلكترونية إلى روسيا مثل الموبايلات والحواسيب والألعاب الإلكترونية.

أما بالنسبة لإمدادات الطاقة، فتوفر روسيا حوالي ثلث الغاز والنفط الخام الذي يستورده الاتحاد الأوروبي، وهنا قالت إدارة بايدن إنها تعمل حالياً مع موردي الطاقة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا لتعزيز الإمدادات إلى أوروبا، وسيكون الحلفاء الأوروبيون اكثر استعدادا للمشاركة في العقوبات إذا تأمن ذلك لهم.

تداعيات ذلك!

على المدى الطويل، تخاطر روسيا بخسارة أهم أسواقها لمنتجات الطاقة واهم مصادرها للدخل، والأوروبيون سيعملون من الآن على استراتيجية مستقبلية لقطع النفوذ الروسي وأضعاف الجار غير المأمون.

ستؤثر القيود المفروضة على شركات الطاقة الروسية بشكل مباشر على قلب اقتصاد البلاد، حيث يساهم قطاع النفط والغاز بما يصل إلى خُمس (20%) الناتج المحلي الإجمالي، وبعض الشركات الروسية بما في ذلك شركة النفط الكبرى روسنفت، تحت العقوبات بالفعل، فيمكن للولايات المتحدة أن تقيد تمويلها أو تلاحق الشركات الفرعية التابعة لها في الخارج، وأكثر من ذلك فقد تواجه شركات التعدين والمعادن الروسية أيضاً ذلك.

حتى الآن، تعرضت سوق الأسهم الروسية لأكبر ضربة، حيث انخفضت بنسبة 27%، مع أن بوتين يبدو أنه غير مهتم بما يحدث لمؤشر RTS، كما أن مجموعة تجارية تمثل شيفرون وجنرال إليكتريك وغيرهما من الشركات الأمريكية الكبرى التي تمارس أنشطة تجارية في روسيا طلبت مؤخراً من البيت الأبيض منح الشركات الأمريكية «فترات تصفية» قبل فرض أي عقوبات على روسيا.

سياسة الحصن الروسي

بعد أن فرض الغرب عقوبات على روسيا بسبب ضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في عام 2014، شرع الرئيس فلاديمير بوتين في استراتيجية طويلة الأمد أسماها «حصن روسيا» من ضمنها بناء الاحتياطيات الأجنبية للبلاد، وشراء الذهب لدعم الروبل الروسي من الانهيارات، وتوجيه بعض الصادرات إلى الصين.

تحاول روسيا في صراعها مع الغرب خلق سوق جديد لصادراتها من الطاقة، وازداد التعاون الاقتصادي مع الصين في عام 2019، حيث قامت روسيا بفتح خط أنابيب غاز رئيسي إلى الصين ونمّت التجارة بين البلدين إلى أكثر من 100 مليار دولار سنوياً.

العقوبات الروسية

في خطوة انتقامية مبكرة ضد العقوبات الغربية، منعت موسكو في عام 2014 معظم واردات الغذاء الغربي مثل الفواكه والخضروات واللحوم ومنتجات الألبان، بما في ذلك الجبن الفرنسي الذي أصبح منتجاً أساسياً للاستهلاك في الطبقة الوسطى، وقد تقوم روسيا بتوسيع خطة إحلال الواردات لاحقاً ليشمل صناعات أخرى، بما في ذلك الطب والتكنولوجيا لتحفيز الإنتاج المحلي.

أحد القطاعات التي لن تتمكن موسكو من أخذ الحيطة ضدها هي التكنولوجيا، حيث تهيمن على صناعة الرقائق العالمية إلى حد كبير شركات من الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا وتايوان وكوريا الجنوبية، وليس لدى روسيا سوى عدد قليل من مصانع أشباه الموصلات التي عفا عليها الزمن وتعتمد على الأجزاء وبراءات الاختراع من الشركات الغربية.

إلى حد ما، تخلصت روسيا من الدولار وخفضت حصة ديونها التي يحتفظ بها المستثمرون الأجانب، وطبقت الحكومة سياسة مالية متحفظة وأبقت على دينها الحكومي أقل من 20% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ 133% في الولايات المتحدة، وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي.

اضطرابات أسواق السلع والمعادن

روسيا هي أكبر مصدر للغاز الطبيعي في العالم وثاني أكبر مصدر للنفط. روسيا تزود ما يقرب من عُشر الألومنيوم والنحاس في العالم، وتنتج 43% من البلاديوم، وهو عنصر رئيسي في المحولات الحافزة كما أنها أكبر مصدر للقمح.

السيناريو الأسوأ هو قطع تدفق هذه المواد الخام الحيوية مع تصاعد التوترات، قد يحدث ذلك لأن الصادرات الروسية، أو البنية التحتية للمدفوعات اللازمة لتسهيلها تتأثر بالعقوبات الغربية، وربما يمكن لروسيا أن تقرر بنفسها وقف بعض الصادرات -لاسيما الغاز- في محاولة للإضرار بخصومها وحتى إن لم يحدث ذلك فمجرد الخوف من هذه الاحتمالات سيدفع بالأسعار العالمية نحو الصعود.

الاقتصاد الأوكراني

عدد لا بأس به من الشركات الأمريكية والأوروبية نقلت مراكز تطوير برمجياتها إلى أوكرانيا، التي أضحت تصدر أكثر من 5 مليارات دولار من خدمات تكنولوجيا المعلومات كل عام.

ستواجه هذه الشركات اضطرابات كبيرة في حالة حدوث غزو روسي، إذ تمتلك العديد من صفقات التكنولوجيا العالمية عنصراً أوكرانياً، فشركة هيتاشي اليابانية التي اشترت شركة غلوبال لوجيك الأمريكية مقابل 9.6 مليار دولار العام الماضي توظف أكثر من 5700 شخصا في مكاتبها في جميع أنحاء أوكرانيا.

قد تبدو هذه الصدمة المالية مفاجئة بالنظر إلى الوضع القوي نسبياً للاقتصاد الأوكراني، حيث تراكمت في أوكرانيا احتياطيات من العملات الدولية بلغت 31 مليار دولار أمريكي، ووصلت احتياطيات أوكرانيا بسبب الخلاف الجيو- سياسي مع روسيا إلى مستوى منخفض بلغ 5 مليارات دولار أمريكي فقط.

انخفض سعر صرف عملة أوكرانيا «هريفنيا»، بسبب خروج الأموال من السوق الأوكراني إلى الخارج، حيث يعتبر المستثمرون الدوليون أن أوكرانيا الآن صارت تشكل مخاطرة مفرطة وليسوا مستعدين لإقراض الحكومة الأوكرانية أو الشركات الأوكرانية بأي ثمن.

يضع هذا قيوداً شديدة على الاقتصاد الأوكراني ومن المرجح أن يتسبب في انخفاض النمو الاقتصادي إلى ما دون توقعات صندوق النقد الدولي المتواضعة بالفعل، والبالغة 3.6% في عام 2022.

ختاماً، بالنسبة للدول الأخرى، فالإضافة إلى تأثر الدول الأوروبية من احتمال نقص أو انقطاع إمدادات الغاز، ستتأثر الدول التي تعتمد على استيراد المعادن والسلع غير البترولية وأكبرها الصين وألمانيا والولايات المتحدة وإيطاليا وكوريا وتركيا، وكذلك يشكل السياح الروس نسبة كبيرة من قطاع السياحة لبعض الدول، كتركيا وقبرص ومصر وحتى الإمارات، هذه الدول قد تلحظ تناقصاً لأعداد السياح من روسيا فيما لو طبقت العقوبات المالية على روسيا.