السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

المرحلة الزرقاء.. وامتصاص الطاقة!

من أبرز الفترات الفنية التي استحوذت على اهتمامي وتفحّصي، «المرحلة الزرقاء» في حياة الفنان الأسطوري «بابلو بيكاسو». تلك الفترة كانت بين عامي 1900 و1904، وخلالها اختبر بيكاسو حالاتٍ متنوّعة من الحزن والأسى والمعاناة، حيث عانى من الإفلاس والفقر، ثم تفاقمت المأساة عندما انتحر صديقه الرسّام «كارلوس كاساجيماس» إثر قصة حبٍ فاشلة، فغاص عميقاً في حالة حزنٍ واكتئابٍ إلى أن أصابه الهزال واعتقد البعض أن نهايته باتت وشيكة. لكن تضافر الظروف القاسية معاً، أنتج عملاً فنياً يُعتبر من أشهر اللوحات على مر التاريخ، ونحن هنا بالتأكيد نعني لوحة «عازف الغيتار العجوز».

في هذا العمل اختزل «بيكاسو» جملة أحزانه وهزائمه النفسية والعاطفية وانكساراته الداخلية وأوجاعه الفظيعة الممتدة، من خلال برودة اللون الأزرق الذي طغى على كل أعماله خلال تلك المرحلة، وخاصة في هذا العمل الذي وصفه بعض النقاد بـ«مصّاص الطاقة» لقدرته العجيبة على بث مشاعر الحزن والأسى وامتصاص أي طاقة ناجمة عن مشاعر إيجابية لمن يشاهد العمل ويتمعّن في تفاصيله.

أدوات الترجمة الحسية لدى المبدعين أكثر تعقيداً من قدرة المبدعين أنفسهم على الفهم!

بالفعل، شخصياً أرى أن الإيحاء الرئيسي للوحة هو الانطفاء الكامل والاستعداد للموت مع استحضارٍ يائس لرمزٍ فني للأمل المتمثّل في الغيتار. لكن هذه المرحلة لم تكتب السطر الأخير في حياة «بيكاسو» أبداً.. بل كانت جسراً لمراحل أخرى أكثر نجاحاً وإشراقاً وازدهاراً.

إن أدوات الترجمة الحسية لدى المبدعين أكثر تعقيداً من قدرة المبدعين أنفسهم على الفهم، وعلى الأخص المراحل السوداوية التي تمر بهم والتي قد ترمي بالبعض في هاوية الانتحار أو أشباهه، فقد تظنهم على نفس الخطى ماضون لإزهاق أرواحهم قاصدون، لكن في الغالب عمق المأساة يلمس في وجدانهم مساحات عذراء تحمل خصوصية تاريخية مذهلة، فتراهم يجترحون إبداعات تفوق قدرتهم أنفسهم على الوصف أو التكرار.


في العامين الماضيين وصل الكثيرون لمرحلة «القهر الأزرق» وأنا منهم، وأنا ممتنةٌ لكل شخص وكلمة وظرف وموقف وأغنية وكتاب، ساعدني على التعبير عن قهري بشكلٍ إبداعي.. لكيلا ينفجر داخلي.. ويُعمّق من جراحي وآلامي، لكل من يعاني من هذا النوع من القهر.. أبدعوا في التعبير عنه.. لا تقفوا أمامه صامتين