السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

أنقذه الانتحار!

ما إن أغمضت عيناها عند ذلك المحيط، رأت تلك الألحان تدور حولها وبها تحيط، وجبال الأنغام المتعالية بالمجد والعظمة نحو العلاء، والصمت الذي أعلن للموسيقى عن جل الوفاء والولاء، كل هذه المحاسن تشتاق إلى حفيف الغصون للحنٍ جديد، كشوق رضيع نطق ليوصف حضن أمه بالبعيد، وحدها الموسيقى من ترتدي نقاباً يقي من اليأس والقنوط، وتملأ أوجاع التأمل ومرارة التفكير ببعض الخطوط، التي من شأنها إزالة الغيوم المتلونة بأشعة الشمس، وتغيير الحطام الذي نتج عن انقباضات الأمس، فيا أيتها الموسيقى (الرشيقة) ولا بأس إن حذفنا حرف الراء (الشيقة).... هل من مزيد؟

(ميلي أليكسيفتش بلاكيريف) ملحن وقائد أوركسترا وعازف بيانو روسي، ومتخصص ومؤلف موسيقي ومدرس وتربوي، قائد مجموعة المؤلفين التي عرفت باسم جماعة الخمسة أو الخمسة الكبار، مثَّل الأعضاء الآخرين في هذه المجموعة حيث كان مهتماً بالابتكار، فابتكر موسيقى روسية قومية بحق، ولذلك كان بالقيادة هو الأحق، تعكس أعماله النغمات الروسية الأصيلة الشعبية، وفي الوقت ذاته جمال الروح الرومانسية، فقد كان آنذاك هو المؤلف الوحيد الذي ألف بدوام كامل، والذي تمتع بمكانة كبيرة بسبب عمله المتكامل، ولكن كم الأعمال الهائل للمقطوعات الموسيقية، جاء على حساب قيمته الفنية الحقيقية، لتبقى أفضل مقطوعاته ظاهرة في السيمفونية الأولى وافتتاحية «روميو وجولييت» وفانتازي البيانو «إسلامي»، التي تمزج بين الهارموني الغربي الأوروبي المتقدم واللون الروسي، وكل ذلك بطرق مثيرة للشغف ومؤثرة، ذات تراكيب غير مألوفة وحديثة الفكرة، ناهيك عن الجمل اللحنية الرائعة والعديد من الأغاني، المختلفة في فحواها والمتميزة في المعاني، بين رائحة شذى التميز وبين العبق المملوء بالأماني، فهل من الممكن بعد كل هذا الجمال أن يعاني؟

كان (ميلي أليكسيفتش بلاكيريف) ذا شخصية قوية ومنفرة ومستفزة ومستبدة، رغم نغماته اللطيفة المتجددة والمتعددة والمتوقدة، فقد كانت أهم سمات أخلاقه من دون أخلاق، وكانت تعاملاته مع الغير غير لبقة على الإطلاق، الأمر الذي تسبب له بالكثير من الكارهين والأعداء، حتى إن أغلب أصدقائه أظهروا له بعض العداء، بل رفض طلابه أن يستمعوا له أو أن يطلبوا منه أي استشارة، الشيء الذي أحزنه وأغضبه واستثاره، فقرر أن يراقب الوسط الفني من بعيد، فانسحب وعمل كموظف في سكة الحديد، وأصيب لمدة 10 سنوات باكتئاب شديد، وفيها أصبح مؤمناً بالخرافات دون تحديد، وكان على وشك قتل نفسه والانتحار بالتحديد، ولكنه هنا استعاد وعيه ووقف على قدميه من جديد.