الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

دكان حارب..أقدم «بقالة» في المنطقة الوسطى.. 80 عاماً من البساطة والمسؤولية الاجتماعية

دكان حارب..أقدم «بقالة» في المنطقة الوسطى.. 80 عاماً من البساطة والمسؤولية الاجتماعية
رغم مرور أكثر من 80 عاماً على تأسيس دكان حارب بمدينة الذيد، إلا أن بساطة مقتنياته من صوره القديمة ومذياعه التقليده وفانوسه الذي تراكم عليه غبار الماضي والحاضر، ما زالت شاهدة عيان على قصة رجل انبثقت جذوره من صحراء الذيد لتصقل شخصية مكافحة تتسم بطيبة أهل البادية وسعة الصدر والحب للجميع، ومسؤولية اجتماعية تجاه الأهل والجيران وسكان المكان، لا تستثني أحداً

لم يكن دكان حارب محلاً تجارياً فحسب، بل كان بمثابة ملتقى فكري للتلاحم الاجتماعي بين أبناء المنطقة، فضلاً عن دوره في تأهيل العديد من أبناء المنطقة للعمل التجاري واكتساب الخبرات التي مكنتهم من تدشين مشاريعهم الدولية حالياً.

"الرؤية" حرصت على التواصل مع باحث ومتخصص في التراث الشعبي، وبعض شهود العيان لاستعراض تاريخ دكان حارب بمناسبة مرور 80 عاماً على إنشائه.



نافذة اقتصادية

أكد الكاتب والباحث في التراث الشعبي الدكتور راشد المزروعي أن "دكان حارب" يعتبر أول وأقدم دكان في المنطقة الوسطى التابعة لإمارة الشارقة.

وأشار إلى أن دكان الراحل حارب محمد بن مسعود الطنيجي أحد سكان مدينة الذيد في أربعينات القرن الماضي، كان النافذة الاقتصادية الأولى لتوفير الاحتياجات الأساسية من المواد الغذائية لسكان المنطقة.

وأوضح أن سكان المنطقة في تلك الفترة كانوا يجدون صعوبة في التنقل بين الأسواق الواقعة في المدن البعيدة كالشارقة وعجمان ودبي لعدم توافر مركبات بالمنطقة آنذاك.

وأبان أن وسيلة التنقل الوحيدة التي كانت متاحة أمامه في تلك الفترة هي الجمال، وكانت رحلتا الذهاب والإياب بين الذيد والشارقة تستغرقان ما يزيد على 5 أيام.

وأضاف "حين عزم حارب على تأسيس الدكان قبل نحو 8 عقود لجأ لنصب خيمة صغيرة وسط الذيد وضع فيها المواد الغذائية الأساسية، متابعاً "تنوعت بضائعه آنذاك ما بين الأرز والقهوة والسمن والسكر والليمون المجفف "لومي يابس"، إلى جانب زيوت الشعر "الحل" والمكاحل المخصصة للنساء، وبعض الأعشاب التي كانت تستخدم في العلاج مثل "الصبر" و"الخِيّل" و"الحبة الحمراء".



تسويق مبتكر

أكد الباحث في التراث الشعبي أن حارب كان يبيع للسكان الكميات التي يحتاجونها من مواد استهلاكية بمقياس الكيلوغرام، من خلال ميزان قديم مخصص لاستخدام التجار إذ كان "المن" يعادل 8 كياسات (وهي حدة الوزن المستخدمة آنذاك)، وهذه الكمية تكفي لاستهلاك أسرة واحدة لأيام عدة، وكان حارب يعطي علبة كبريت بالمجان لمن يشتري القهوة كنوع من أنواع التسويق لبضائعه من أجل تنشيط حركة البيع.

وذكر أنه بعد مرور نحو عقدين من الزمن توسع حارب في تجارته ونقل بضاعته ليعرضها في "دكان" مبنية جدرانه من الطابوق والأسمنت وسقفه من الأعمدة الخشبية وصفائح الألمنيوم.

وحرص حارب على تزويد الجدران الجانبية للدكان بأرفف خشبية تمكنه من عرض بضائعه عليها والتي تنوعت ما بين الملح والتمر والفحم التي كان يجلبها له البدو، بينما كان المتوجهون لمدينة الشارقة على ظهور جمالهم يشترون منه الحطب لبيعه في أسواق مدن الشارقة وعجمان ودبي، التي تضج بالتجار.

وأشار إلى أن أسعار البضائع في تلك الحقبة كانت زهيدة للغاية، مقارنة بأسعارها اليوم، إذ كان سعر كل من كيس الأرز الكبير وصفيح السمن لا يتجاوز درهماً واحداً.

وتابع: "بعد قيام دولة الاتحاد وبعد دخول المركبات للمنطقة الوسطى كان حارب يستأجر لنفسه سيارة من نوع لاند روفر ليتنقل بها إلى مدينة الشارقة لجلب البضاعة التي يعرضها في الدكان".



مواكبة التحضر

وحرص حارب على مواكبة التحضر الذي شهدته الدولة بعد الاتحاد، ما دعاه لتنويع بضائعه التي كان ينتظرها أهل المنطقة بشغف، وهو ما مكنه من تكوين صداقات عميقة مع أهالي "الفريج" الذين كانوا يشترون منه بنظام الآجل.

ولشهامته وعلاقاته الاجتماعية المترابطة كان سكان الأحياء المختلفة يلتقون في دكان حارب من أجل تبادل الأحاديث التي لا تطيب إلا مع فناجين القهوة العربية والتمر، إلى جانب الاستماع للمذياع المعلق على جدار الدكان والذي يبث أحدث أخبار العالم.

وفي دكان حارب تعلم العديد من أبناء مدينة الذيد فنون التجارة بعد التحاقهم بالعمل معه لفترات طويلة، إلا أنهم استقلوا بعد ذلك لتدشين دكاكينهم الخاصة التي تطورت لاحقاً إلى سلسلة من المشاريع التجارية الكبرى التي ما زالت قائمة حتى اليوم.

وعلى الرغم من حرص حارب على تنويع بضائعه لمخاطبة كافة الأذواق، إلا أنه رفض الخضوع لمتطلبات التحضر التي فرضت نفسها على حياة العامة في الثمانينات من القرن الماضي، حيث ظل مصراً على بقاء دكانه على تصميمه القديم من حيث ألوان الجدران وطريقة البناء والتشييد وبعض السلع المعروضة للبيع فيه.



توسع


وتمكن حارب من التوسع في تجارته بعد افتتاحه بالقرب من دكانه لمخزن سمي بمعصرة التمر، أو "المدبسة" التي كان يخزن فيها أكياس التمر المصنوعة من جريد النخيل ويضع تحتها مجموعة من الأعمدة الخشبية التي تعرف بـ"المربعات" تصف على الأرض بحيث تكون متوازية، التي تم استبدالها لاحقاً بأعمدة خرسانية، وهي تسهل جمع الدبس بعد عصره من التمر وصبه لاحقاً في صفائح تعرض للبيع.

ولفت المزروعي إلى أنه بعد رحيل حارب في عام 1996، حافظ أفراد أسرته على بقاء الدكان قائماً وتم تعيين شخص آسيوي لاستئناف حركة البيع فيه، وتنوعت البضائع المعروضة في الدكان ما بين الحبال المصنوعة من ألياف النخيل وأكياس الملح الصلب وبعض أدوية الطب البديل وأنواع عدة من الأغطية البلاستيكية التي تستخدم في البيوت والسيارات وحظائر الحيوانات.



بشاشة الملاح

فيما أكد علي الطنيجي أحد أصدقاء حارب أن الدكان لم يخدم سكان الذيد فقط، بل حتى سكان المناطق المجاورة لها مثل مليحة ومسافي والمدام وفلج المعلا وسهيلة والمنامة، الذين يرتادونه لشراء البضاعة الاستهلاكية الرئيسة التي يحصلون عليها بأسعار مناسبة، مشيراً "كان حارب بشوش الملاح سمح الخلق يقابل الجميع بابتسامته المعتادة التي تدل على أخلاقه النبيلة، كما كان يتساهل مع الذين لم تكن لديهم القدرة على دفع ثمن السلع التي يشترونها من عنده".

في حين قال عبدالله الكتبي: "لم يكن حارب صاحب دكان فقط بل كان لنا الصديق والمعلم الذي ضرب أروع الأمثلة في الشهامة والكرم وسماحة تعامله مع الجميع، إذ كانت عبارته المعتادة (خذوا ما تحتاجونه من الدكان ولا تفكروا في الدفع)، وعلى الرغم من مرور السنوات على البعض دون أن يدفع المؤجلات عليه لم يكن يطالبهم بالدفع إلى أن رحل عن الدنيا".