الاثنين - 29 أبريل 2024
الاثنين - 29 أبريل 2024

«سول».. أصبح للتحريك جسم وروح

التحريك هو فن المستقبل.. لا شك في ذلك. وأفلام التحريك التي كان ينظر إليها كجنس أدنى من الفيلم الروائي والوثائقي وكنوع فني مخصص للأطفال تثبت عاماً بعد آخر أنها الأكثر تطوراً من بين الأنواع الأخرى.

ولا يكاد يمر عام دون أن تشهد أفلام التحريك المصنوعة في هوليوود واليابان وأوروبا وغيرها طفرات وقفزات وروائع فنية جديدة تساهم في إقناع مزيد من المشاهدين والمتابعين أن التحريك هو فن المستقبل.





فيلم «سول» هو أحدث إنتاج يحمل اسمي «ديزني» و«بيكسار»، رائدَي سينما التحريك في أمريكا والعالم، وآخر أفلام عام 2020 الصعب، الذي واجهت خلاله صناعة السينما ضربة موجعة قد لا تتعافى منها قريباً، وهو أيضاً واحد من أفضل أفلام العام، وأول فيلم من إنتاج «بيكسار» بطله أمريكي إفريقي، وأشياء أخرى كثيرة.

مبدئياً لا بد أن يندهش المرء، خاصة في عالمنا العربي، من حقيقة أن هذا الفيلم مخصص بالأساس للأطفال، فبطل الفيلم يموت بعد 10 دقائق من بدايته، ويقضي بقية الفيلم روحاً هائمة في عالم «ما وراء الحياة» و«ما قبل الحياة» يصارع من أجل العودة إلى الأرض، فيما يصادق روحاً لم تولد بعد ترفض أن تذهب إلى الأرض!





يناقش فيلم «سول» موضوعاً فلسفياً ميتافيزيقياً يندر أن تجده في أفلام الكبار، وبالتأكيد يندر جداً أن تجده في السينما التجارية، ولكنه امتداد لسلسلة من الأعمال الجادة «ذات العقل» التي أنتجتها «بيكسار» خلال العقدين الأخيرين، وخاصة الأعمال التي صنعها المخرج بيت دوكتير وعلى رأسهاInside Out الذي يمكن ترجمة عنوانه بـ«الجوهر والمظهر»، الذي يتناول مفهوم الشخصية البشرية ومكوناتها وقبعات التفكير والإحساس المختلفة.

يواصل دوكتير في «سول» مناقشة مسألة الشخصية والهوية، وهل يولد الإنسان بشخصيته جاهزة، بشكل قدري محتوم، أم أن عليه أن يعيش أولاً حتى يعثر على شخصيته وشغفه وهدفه ووجوده؟





يدور الفيلم حول معلم موسيقى اسمه جو غاردنر يهوى عزف موسيقى «الجاز» ولكنه لا يستطيع التفرغ لعشقه بسبب خوفه من المغامرة ومن أمه التي تطالبه دائماً بالتعقل والبحث عن وظيفة لائقة ثابتة.

في يوم من الأيام يدعى غاردنر للعزف مع مغنية شهيرة، ومن شدة فرحه يسقط في بالوعة في الطريق ويموت!

تذهب روح غاردنر إلى العالم الآخر، ما قبل النعيم والجحيم، انتظاراً للبت في أمره، لكنه يرفض، يغضب، يهرب، ويناور لكي يعود إلى الأرض بأية وسيلة، فهو بالكاد كاد يبدأ حياته.



وفي رحلة هروبه يجد نفسه في مكان آخر، بين الأرواح التي لم تولد بعد، ومن بينهم روح لا اسم لها، تحمل رقم «22»، عالقة في الـ«ما قبل» ترفض أن تولد في هيئة إنسان، ولكن نتيجة خطأ ما يهبط الاثنان معاً، فتحل روحها في جسده، بينما تحل روحه في جسد قطة!

تتوالى الأحداث على خلفية من موسيقى وأغاني الجاز والسول، تدخل في نسيج الدراما، وتساهم في توليد الأفكار والأحداث، وتشعر في لحظات أن الفيلم عبارة عن قطعة موسيقية طويلة تم كتابة قصة ورسم شخصيات لها، مثلما فعل المعلم الأول والت ديزني في رائعته «فانتازيا» منذ 80 عاماً، التي استخدم فيها بعضاً من أجمل المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية، مع رسومات بريشة سلفادور دالي شخصياً.





هنا أيضاً في «سول» يغمرك الثراء الفني من رسم وحركة وموسيقى ودراما، وربما تفكر في لحظة، أو تشعر دون أن تفكر، في العلاقة العميقة بين الموسيقى الإفريقية الأمريكية، البلوز والجاز والسول، وبين أصولها الدينية في إفريقيا، أو أصولها المسيحية الكنسية، بعد انتقالها لأمريكا، وبين تطلع الروح السوداء للخلاص من شقاء العبودية، والعيش من خلال الموسيقى والفن في عالم آخر يتوقف فيه الواقع عن الوجود.

هذا العالم الخيالي موجود في الفيلم حرفياً، حيث يرى غاردنر أرواحاً تحلق في أحد المشاهد، فيسأل عن طبيعتها ومكانها، فيقال له إنها أرواح الفنانين والمتأثرين بالفن أثناء تحليقها في عالم الجمال الفني!





ويتميز «سول» برسمه البديع الدقيق للشخصيات وللحياة في المدينة –نيويورك سيتي هنا- وهو أفضل هدية يمكن أن يحصل عليها طفل لكي يحب فن الرسم.

«سول» هو أيضاً خير هدية يمكن أن يحصل عليها الصغار –والكبار- تقدمهم إلى، وتحببهم في، الموسيقى، خاصة أن صناع الفيلم يبدعون في تحويل هذه الموسيقى إلى رسوم وخطوط وألوان مرئية، فيكاد يختفي الخط الوهمي الفاصل بين الرسم والموسيقى والسينما، ولا يبقى سوى «سول» أو روح الفن فقط.