الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

يجمع الوثائقي بالخيالي والغرب بالشرق.. «نومادلاند».. كنوز الصحراء والرحالة في فيلم

من المتوقع أن يتوج فيلم Nomadland أو «أرض الرحل» بكبرى جوائز الأوسكار التي ستعلن ليلة الأحد القادم في حفل يتوقع أن يكون مبتكراً وغريباً من نوعه في تاريخ أكاديمية علوم وفنون السينما.

«نومادلاند»، مثل كثير من الأفلام المرشحة هذا العام، هو أيضاً جديد وغريب مقارنة بالسينما الهوليوودية والأمريكية المعتادة، وبعد أن فاز الفيلم الكوري parasite بمعظم الجوائز في العام الماضي، تأتي ترشيحات هذا العام التي يغلب عليها صناع أفلام من جنسيات وأعراق مختلفة لا تكاد تتعرف فيها على ملامح أمريكا البيضاء الشقراء المعتادة.





«نومادلاند» من تأليف وإخراج الصينية الأمريكية كلوي زاو، شهد عرضه الأول في مهرجان فينيسيا العام الماضي، حيث حصل على الجائزة الذهبية، ثم انتقل لمهرجان تورونتو، حيث حصل على جائزة الجمهور، ومن يومها وهو يتنقل من مهرجان إلى آخر ومن جائزة إلى أخرى، كان أحدثها حصول زاو على الكرة الذهبية كأفضل مخرجة في كل من جوائز الجولدن جلوب واتحاد المخرجين الأمريكيين وجوائز الأكاديمية البريطانية!

يدور «نومادلاند» حول حياة المشردين، الذين عصفت بهم الأوضاع الاقتصادية الصعبة خلال العقد الأخير، وزاد عددهم ومعاناتهم عقب أزمة كوفيد-19، وذلك من خلال شخصية «فيرن»، وهي سيدة متوسطة العمر، أم وجدة، تفقد عملها عقب إغلاق المصنع الذي تعمل فيه عام 2011، وتضطر إلى العيش داخل سيارة van، تتنقل بها عبر الولايات، بحثاً عن فرصة عمل لأيام، هنا أو هناك، حتى تلتقي مجموعة من «الرحل» مثلها، وتتعلم من بعضهم كيفية الحياة على الطريق.





تلعب شخصية فيرن الممثلة فرانسيس ماكدورماند، الحاصلة على جائزتي أوسكار، والمرشحة لنيل الثالثة عن دورها في «نومادلاند». تتميز ماكدورماند عادة بأداء هادئ «جواني»، وشخصية فيرن، كما تؤديها ماكدورماند، انطوائية، متحفظة، لديها عزة نفس وكرامة، لا تميل للاختلاط بالآخرين، أو التعبير عن مشاعرها، تتأمل العالم وتتقبل ضرباته في صبر، لا تغضب أو تشكو، حتى عندما تكاد تتجمد من البرد ذات ليلة، أو عندما تخرب سيارتها التي أصبحت موطنها الوحيد. فيرن التي قضت معظم حياتها كزوجة محبة وأم تتعلم في النهاية قيمة التخلي، مادياً ونفسياً، وقيمة أن يتعامل المرء مع العالم كما لو أنه مجرد سحابة عابرة في السماء، أو سيارة تمر على الطريق، قد تتوقف هنا أو هناك لبعض الوقت، ولكنها لا تكف عن الترحال.



ينبع جمال «نومادلاند» من تعدد مستويات قراءته، إذ يمكن مشاهدته كفيلم اجتماعي عن تأثير الأزمة الاقتصادية، أو كعمل وثائقي عن ظاهرة «الرحل» الذين يعيشون على الطريق ويضعون نظاماً وقواعد وأسلوب حياة وفلسفة لأنفسهم، حيث يعتمد الفيلم على كتاب بالاسم نفسه للصحفية جيسيكا برودر يوثق حكايات وعالم «الرحل» الذي نراه في الفيلم، كما يعتمد الفيلم في معظم مشاهده على شخصيات حقيقية من هؤلاء الرحل يؤدون حياتهم أمام الكاميرا. يمكن أيضاً مشاهدة «نومادلاند» كفيلم فلسفي عن المرور عبر المأساة والمعاناة، وصولاً إلى حالة من النضج والتسامح والتخلي، باعتبارها أرقى حالات الإنسانية، وفوق هذا كله لا بد من تأمله كعمل فني خالص، رحلة بصرية تشكيلية شعرية عبر الصحراء وصولاً إلى النيرفانا البوذية أو الصوفية المسيحية والإسلامية، حيث تسمو الروح فوق هموم العالم وتقلباته الزائلة.



تستخدم كلوي زاو الصحراء الشاسعة بمفهوم فلسفي شرقي يذكر بأعمال كبار المتصوفة والشعراء والمصورين الشرقيين، من الصين إلى إيران مروراً بالهند وشبه الجزيرة العربية، ورغم أن «نومادلاند» فيلم طريق road movie تقليدي في مظهره، إلا أنه يختلف جوهرياً عن معظم أفلام الطريق الأمريكية، ربما لا يشبهه سوى أعمال مثل «طعم الكرز» لعباس كياروستامي، «باريس تكساس» لفيم فيندرز، و«قصة ستريت» لديفيد لينش.





هذه النظرة الجمالية الفلسفية تنجو بـ«نومادلاند» من فخ إثارة العطف على الفقراء، الذي يمكن أن يقع فيه الكثير من صناع الأفلام، حيث تغري كثير من المواقف بصنع مشاهد درامية مبكية. في الحقيقة هناك مشهد واحد نرى فيه البكاء عندما يبوح كل «الزعيم الروحي» الحقيقي للرحل بوب ويلز بمأساته الشخصية وهو ما يشجع فيرن على أن تفتح قلبها وتعبر هي أيضا عن مشاعرها، وهو مشهد نصف وثائقي نصف روائي، وحتى سوانكي، وهي شخصية حقيقية أخرى لسيدة عجوز من «الرحل» مصابة بالسرطان تموت أثناء صنع الفيلم، التي يثير موتها قدراً كبيراً من الأسى لدى المشاهد، هي شخصية قوية تستقبل حقيقة مرضها وموتها بشجاعة، وهي بمثابة معلمة ومصدر إلهام لفيرن.



يحتاج «نومادلاند» إلى مشاهدة متأملة تخلو من التصورات التقليدية عن الأفلام، خاصة الهوليوودية، وهو قد يبدو خاوياً أحادياً مثل الصحراء التي يصورها، ولكنه مثل هذه الصحراء ممتلئ بالكنوز التي تحتاج إلى بدوي ورحالة حقيقي ليعثر عليها!