الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

براءة لعبة الحب

براءة لعبة الحب

براءة

بقلم: د. فضيلة ملهاق روائية وشاعرة ـ الجزائر

- تهاني، مبروك، حصولك على بطاقة الإقامة بمدينة المعجنات.

أكثر بكير من عبارات التهاني، ولم يلمس فرحة زياد، استفزته لامبالاته، وانفجر في وجهه باللوم:


- تتبطر على التهنئة؟!


حدق إليه بنظرات تائهة، وقال بصوت خافت:

- هل يستحق الألم تهنئة؟! ما تركت مدينة (المكسرات) إلا بعد أن انهرست جهودي، وانطحنت آمالي، وسئم الفراغ من اجتراري، يبدو أن قدري أن أكون إما مهضوماً وإما هاضماً، لا نصيب لي في أطياب الحُلم، إما الخواء يبلعني، وإما أجترع آلامي، ولست أطلب المستحيل، لا أريد سوى أن أستطيب أنفاسي! هل هذا كثير؟!

- يمكنك الآن أن تخطو خطوات حرة.

- بل عليّ أن أكون أكثر احتراساً، الخطوة في المعجنات لها حسابات تخفق كالعجين بين شقوق الرأس، والحلم لا يخلو من الطحن، والعجن، والطهي، والبلع.. والهضم!

- لا أفهم مخاوفك!

- اشترطوا علي ألا يعرف بطني غير طعامهم، وألا تعرف كسوري غير ضمادهم.

- عادي!

- هل من حياة في مدينة تحكم المرء ببطنه وكسوره؟!

نظر إليه بكير نظرات مستهجنة وغادر، وحز في نفسه أن يمر عليه هو، مصلِح آلات الطحن والعجن، عدة شهور في مركز الإيواء من دون رد، بينما حظي مصمم الدمى بالقبول في غضون شهر واحد، تركه وسط مجموعة من المهنئين، جاملهم حول طاولة في المطعم.

- إذن هو الانزراع يا ابن المكسرات! أو بماذا أنعتك؟ فول سوداني، جوز، لوز، بندق.. فستق؟ هاها.. هاها ! قال له أحدهم بنبرة تشكك في براءة المقابل.

- خشنة أم ناعمة؟ سأله آخر، يقصد إن كان ادعى التعرض للاضطهاد الفكري والخطر، أم التعرض للاضطهاد الجنسي، وهي أوجه قبول اللجوء.

- دسمة، قال يصب الزيت على نار فضولهم.

- إذن هي هبرة كبيرة، لمح أحدهم لكونه هرّب أموالاً من مدينته.

- لديك ثروة؟! علق آخر مستغرباً.

- لدي فكرة، رد زياد بنبرة متحسرة.

-فكرة! علّق أغلبهم بنبرة مشحونة بالاستهزاء.

لم تترك له ملامحهم ولو أملاً رهيفاً في أن يصدقوا أن ما جاء به هو لعبة، مصممة بشكل ينمي في الطفل محبة الآخر، خفتت أضواء القاعة فجأة، وأراحته من همزهم، ولمزهم، استداروا إلى شاشة التلفاز، وتسمرت أعينهم في المجسم الذي أشار إليه المذيع، مباهياً:

- تمكنت مدينة المعجنات من تصنيع أحدث طراز للمعجنة الراشقة بالخميرة الكيميائية، شكلها ظريف وغير مروع، يشبه لعبة الأطفال.

أحس بأكوام الحمأ تتكدس فوقه وتثقل أنفاسه، تسارعت دقات قلبه، دارت رأسه بجميع رسومات الألعاب التي قدمها لمكتب اللجوء، كادت الصدمة تفجر دماغه، قال في نفسه، بانكسار:

- تحولت تصاميم اللعب مجسمات دمار! وأنا الذي عانيت الكثير رجاء أن تذوي خمائر الدمار في الأنفس!

ازرقت شفتاه ولم يعد يقوى على الكلام، أجبره أحدهم على إتمام الحديث، بعد أن انخفض صوت التلفاز، قائلاً:

- إذن، هي فكرة!

رد بلا تردد:

- أن تعرف الطفولة براءة اللعب ليعرف الكبار نزاهة الجد.

- الطفل القشري! يهتم بلعب الصغار بينما أمتع الألعاب هي ألعاب الكبار! علق أحدهم، ممازحاً.

- يتنكر لبراءة لعبة الحب! أضاف آخر يساند إيحاءه.

- يريدنا أن نظل أطفالاً! أضاف آخر بتهكم.

انفجرت الضحكات حوله، وتنوعت التعليقات، وصمدت ملامحه اللامبالية، رفع يده وطلب فاتورة العشاء، وضع عليها مبلغاً من المال ثم رمقهم بنظرات تختزن تعابير الفراق، وقال:

- الأطفال يلعبون لأجل الحياة، والكبار يلعبون بالحياة! هيهات أن نظل أطفالا!