الاحد - 05 مايو 2024
الاحد - 05 مايو 2024

الصحفي المحترف.. وغصَّة الرحيل

الصحفي المحترف.. وغصَّة الرحيل
بقلم: د. محمد شطَّاح مدير برنامج الاتصال والإعلام جامعة العين- أبوظبي

قبل أربعة عقود من اليوم، لم يكن أكثر خبراء الإعلام تشاؤما يتوقع ما ستؤول إليه الصحافة من حالات رحيل جماعية، فقد أصبحت الصحف نفسها بوابة للإعلان عن توقف الصحف أو تحول بعضها الى نسخ اليكترونية.

وهكذا كان الحال مع صحيفة "الإكسبريس"" Express" الأمريكية، فقد اعلنت مؤسسة " الوشنطن بوست" منذ فترة قصيرة عن توقيفها وتحويلها الى نسخة رقمية، وهي صحيفة ظلت توزع (بالأخص) على ركاب الميترو في العاصمة الأمريكية لمدة 16 عاما، وقد آثرت الرحيل معنونة صفحتها الأولى بعنوان يعبر عن رحيلها القصري وعن غصة المشرفين عليها، فكتبت في وسط الصفحة عنوانا استفزازيا وببنط عريض - تجاوز بعض الشيء أخلاقيات المهنة - الى قرائها المنسحبين:" استمتعوا بهواتفكم الحقيرة" وهو تعبير عن مساهمة الحوامل الجديدة والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي في المصير الذي آلت اليه "الإكسبريس" وغيرها من الصحف.


وقبلها ودعت صحيفة "ذي نيو داي" The new day الساحة الإعلامية في بريطانيا بعد 10 أسابيع من الصدور، فبعد أن صدرت في عام 2016 وصادف صدورها غياب النسخة الورقية من صحيفة The Independent العريقة، أعلنت في تحد أن عزوف القرّاء يعود إلى تدني مضامين الصحف، وصدرت دون نسخة اليكترونية، لكنها وبعد بضعة أسابيع انسحبت في صمت وتوقفت عن الصدور بعد أن تكبدت خسائر فادحة، وتدنت مبيعاتها إلى 40 ألف نسخة، بعد أن كانت تطمح إلى 200 ألف نسخة يوميا.


وأنا أدون هذه الأسطر، تذكرت سنوات الثمانينات من القرن الماضي وكنت حينها طالبا بالصحافة، يومها عجّت المكتبات والأكشاك بالصحف والمجلاّت، وكانت أعداد الصحف الصادرة لا تخلو في الغالب من الإعلان عن ميلاد عناوين جديدة، وغدت الصحف المجلاّت في ذلك الوقت بمثابة فضائيات ومواقع نطل من خلالها على العالم.

لقد لخص الكاتب الصحفي سمير عطا الله" المتشائل" هذه " الغصة " عندما كتب في جريدة الشرق الأوسط الورقية منذ فترة" قائلا:" الآن ونحن نودع عصر الإنترتيب، نشعر بالأسى على رائحة الحبر وعطر الورق. لكن صناعة الصحافة ربحت ملايين القراء الإضافيين، ولم تعد هناك طبعة أولى أو أخيرة بل طبعة مستمرة من دون طباعة، وانخفضت تكاليف النشر والتوزيع بنسبة خيالية "

وأضاف عطا الله:" كل ذلك كان عصرا جميلا، ولا يزال كذلك عند الذين عاشوه، أما عند الذين بدأوا القراءة في عصر الإنترنت فيقرأون صحفهم الآن على هواتفهم، وليس من الضروري أن تضيف «الجوالة» لأن الهاتف غير الجوال أصبح قطعة للزينة مثله مثل الآلة الكاتبة، التي كانت إلى ثلث قرن رمز التقدم والطليعية."

اليوم أعتقد أن الصورة تبدو قاتمة ومتشحة بالسواد، والسؤال الذي يطرح حول هذا الرحيل "الجماعي" هو: هل الحوامل الجديدة وشبكات التواصل الاجتماعي هي السبب الوحيد لهذا المصير؟.

اعتقد أن هناك أسباباً أخرى يجب أن تضاف إلى المشهد، فبالإضافة الى المنافسة من قبل الوسائط الجديدة التي تسببت في تآكل القرّاء وتراجع عائدات الإعلان، وجب أن ننتبه جميعا إلى طبيعة هذه التحولات، فلم يعد جمهور القراء بالمفهوم التقليدي الذي آلفناه، فنحن أمام حشد من المستخدمين والمنتفعين، كما أن القراءة في حد ذاتها اختفت عند جمهور عريض من المتصفحين.. لقد شرع الصحفي المحترف في الرحيل تاركا الساحة للمواطن الصحفي، وسيرحل معه الخبر الموثوق والتحليل الموضوعي تاركا المكان للخبر "المستعجل أو الاستباقي"، وبالمختصر المفيد لقد رحل ساعي البريد، فهل تبقى الرسالة؟