الأربعاء - 08 مايو 2024
الأربعاء - 08 مايو 2024

فشل سياسة الرهائن والغنائم

فشل سياسة الرهائن والغنائم
بقلم: إبراهيم أبو عواد كاتب ـــ الأردن

الفكرُ الاجتماعي لا يَنفصل عن منظومة المشاعر الفردية، كما لا ينفصل عن الإطار العملي للرموز المعرفية، وهذا الترابط المركزي المصيري يُحوِّل الأنساقَ الاجتماعية إلى وعاء حاضن لأحلام الناس وآمالهم، مِمَّا يدل على أن الأنساق الاجتماعية تُمثِّل رُموزًا فكرية ذات مرجعيات نفسية عميقة، ولا يُمكن اعتبارها مُجرَّد تحوُّلات في بُنية التاريخ، أو تغيُّرات في طبيعة الجُغرافيا، لأن المجتمع لا يتحرَّك في الإطار المادي فَحَسْب، بَل أيضًا يتحرَّك في الفضاء المعنوي غَير المَحسوس، والذي يقوم على إفرازات الظواهر النفسية الداخلية المتجذرة في وَعْي الفرد وإحساسه بذاته، وشُعوره بالعَالَم المُحيط به.

وكُل فرد أثناء رحلته في الحياة يبتكر منهجه الخاص في التعامل مع الظواهر النفسية والحقائق الاجتماعية، وهذا يَدفع باتِّجاه توليد تصوُّرات خُصوصية عن الأشياء والقِيَم والرموز والعلاقات التي تنتشر في المجتمع الإنساني، وتتحكَّم باتِّجاه حركته، وماهية أفكاره، وهُوِيَّة مساره، وشخصيته الاعتبارية.


وتعدُّدُ التَّصَوُّرات واختلاف الأحكام، لا يدل على تشظِّي المجتمع الإنساني وانفصام شخصيته وانكسار أحلامه، وإنما يدل على تعدُّد زوايا الرؤية، واختلاف وجهات النظر المُرتكز إلى اختلاف قُدرات الأفراد، ذلك لأن المجتمع الإنساني واحد، ووجهات النظر فيه مُتباينة بسبب تبايُن القُدرات العقلية للأفراد، وإذا لم تكن الصورةُ في المِرْآة جميلةً، فإن المُشكلة في شخصية الفرد، ولَيست في طبيعة المِرآة.


والعلاقةُ الوثيقةُ بين أبعاد الوجود الإنساني( الشُّعور، الرَّمْز، التاريخ، الجُغرافيا ) هي الضمانة الأكيدة للحفاظ على إحساس الأفراد بالحقائق المعرفية والبُنى الاجتماعية، ومَنع التعارض بين المُعطيات النفسية والعلاقات الاجتماعية.

وكُلَّما اتَّجَهَ الشُّعورُ الإنساني إلى الرَّمْز الاجتماعي، اتَّضَحَ منهج تفسير مصادر المعرفة في المجتمع الإنساني، لأن الشُّعور والرَّمْز عابران للتَّجنيس، ولا يَخضعان لعملية الأدلجة، لهذا كانت القيم الأخلاقية المُطْلقَة ــ التي تقوم على ثنائية الشُّعور والرَّمْزــ واحدةً في كُل المجتمعات، رغم اختلاف العقائد والثقافات.

فمثلًا، الصِّدق والإخلاص والأمانة والاحترام... إلخ، قيم ثابتة في كل المجتمعات، وتتمتَّع بسُلطة أخلاقية اعتبارية نابعة من العقل الجمعي، ومُعْتَرَف بها في كُل الأوساط دُون الحاجة إلى عمليات أدلجة، أو ضغط نفْسي، أو إرهاب فكري، وهذه القيمُ مفروضة في أنساق المجتمعات بحُكم قُوَّتها الذاتية وماهيتها المُطْلَقة، وليس بقرارات سياسية أو أحكام سُلطوية عُليا.

وأكبرُ خطر يُهدِّد المنظومةَ الفكرية المُتكوِّنة مِن الشُّعور والرمز والقيم الأخلاق المُطْلَقة، هو المصالح الشخصية الضَّيقة والنَّزوات الذاتية والرغبات الأنانية، لأنها تُحوِّل القيمَ المُطْلَقة إلى مُكوِّنات نِسبية، وتُحوِّل العقائدَ الدينية إلى أيديولوجيات سياسية نفعية لحشد الناس واستغلالهم والسيطرة عليهم.

وخطورةُ هذه العملية تتجلَّى في جَعْلِ اختلاف الآراء الفكرية صراعًا اجتماعيًّا دمويًّا، وتحويلِ تعدُّد وجهات النظر إلى صِدَام دِيني مُرتكز إلى التناحر المذهبي والعصبية القَبَلِيَّة والعُنصرية العشائرية، وبعضُ الزُّعماء يرسم مُستقبله السياسي اعتمادًا على طائفته وقاعدته الانتخابية، دُون اعتبار لمركزية الوطن والشعب بكافة مُكوِّناته وشرائحه، وهذا يستلزم بالضرورة ترسيخ سياسة التَّحشيد والأدلجة، وأخذ الطوائف رهائن لتوجُّهات بعض السياسيين ومصالحهم الشخصية.

لذلك، يُصبح الوطنُ مُجرَّد فندق للإقامة المُؤقَّتة بدون انتماء حقيقي، مِمَّا يُسبِّب اضطرابات اجتماعية، وتفكُّكًا في النسيج الوطني، وانهيارًا شاملًا في مؤسسات الدَّولة، وفي ظل هذا السُّقوط المُريع، يَبرز تُجَّار الحروب، وزُعماء الطوائف، وسماسرة الكوارث، وبعضُ السياسيين مُستعد للتَّضحية بطائفته كاملةً مُقابل الحفاظ على منصبه وامتيازات، ومُكتسباته الذاتية، ومصالحه الشخصية ومنافعه المادية.