السبت - 21 سبتمبر 2024
السبت - 21 سبتمبر 2024

جئتك اليوم.. مرتدية الحنين الثائر

جئتك اليوم.. مرتدية الحنين الثائر

جئتك اليوم

آية رائد حسن محللة استراتيجية وكاتبة ـ فلسطين

في كلِّ لقاءٍ بيننا يُراودني سؤال:

ــ أسنلتقي غداً؟ أسنلتقي كما اتفقنا في القدس عند عتبة المكتبة في آخرِ شارع صلاح الدين، وتحديداً عند شجرةِ الزيتونِ اليافعةِ المخضرمةِ، التي طالما كانت لجميعِ الحضاراتِ والكتبِ المنافسَ الأعظم، فلم تتسعْ رفوفُ المكتبةِ على احتواءِ جذورها، فريدةٌ من نوعها، كالأنثى تماماً تزداد جمالاً كلما نضجت، تترفعُ عن الرياءِ وديعةٌ في العطاءِ، للحياةِ هي الهويةُ والانتماءُ، بتجاعيدِ جذعها الصامدِ تحاربُ جميع أشكال الاقتلاع، أبيةٌ ترفض الانحسار والنفي، تشبهنا أنا وأنت كثيراً؟


لِمَ لا نُعيدُ اللقاء عند بابِ العامودِ أمامَ عربةِ بائعِ الكعكِ المقدسيِّ بأسلوبه الرنان المثيرِ ينادي ويرددُ:


ــ يا قدسيّ.. يا كعكْ.

ذلك الصوتُ في السادسةِ صباحاً يجتاح عرباتِ الباعةِ كأنه موعدٌ لتاريخٍ غراميٍّ.. يا لتلكَ الكعكةِ! لها نكهةٌ خاصةٌ ممزوجةٌ بأنامل الأرضِ مرشوشةٌ بالسمسمِ المُحَمصِ الحر، رأيْتني هناكَ في المرة الأولى وألقيتَ عليَّ بأهدابك تحيةً «درويشية» بين السمسميةِ واللوزيةِ على مشارفِ قبة الصخرة الملكيةِ، وتركت عندي كوفيةَ عينيكَ وما أزال أحتفظ بها بين ضلوعي.. أسرْتني بهيبة، وحكمتَ عليَّ بالمؤبد الجليل، فلا أستطيعُ عند عتبتك الاتكاءَ، أو التحيُّرَ، أو الجدالَ، أو التصديَ، أو التَّفكُّرَ، أو الاستسلام.. لقد بعثرت كيان قلبي يا وطني! كَباب العامودِ كنّا وانصهرنا قبل أن تضيع شظايا قلبَينا بين الأزقة وسوق باب خان الزيت، ومشربيات العطارين، وزحام سوقِ اللحامين، وعراقة سوق القطانين، وحرفيّة الصاغة، وسوق الدباغة.

أم تريدُ أن نلتقي عند كرومِ العنبِ في الخليلِ، والشهدُ من عريشها فرحٌ ودِبْسٌ يسيل فنرْتَويَ بأهزوجةٍ، تسحَرُ ألحانُها رعشةَ الفؤادِ قبل أن تسرقَ النظر، تأسِرُ الجوارح قبل احتلال البصر ونتساءل:

ـــ هلِ الفردوسُ أجملُ أم بلادي؟

أم تريد أن نلتقيَ في فصلِ الربيعِ على دربٍ مرصوفٍ بالريحانِ والميرميةِ والنّرجسِ والياسمينِ، تغارُ عليَّ من سحِر المكانِ، وشقائقِ النعمانِ فيتهيأ لي أن ذلك هو غزلكَ المُبَطّنُ المعتادُ على صهوةِ جوادك قدْ بان وتمردَ؟! أم نتقابلُ عند العيون في محطة بتّير، لتأخذني في رحلةٍ إلى يافا وجنينَ، وتقطف لي قصيدةً محفوراً عليها «صنعتْ في فلسطين»، وتأتيَني بالكرزِ والتينِ، وبذلك تكون قد ضمنتَ اللقبَ والقلبَ معاً؟

لمْ تأتِ هذه المرة، فجسدتك في روايةٍ خاليةٍ من البدايةٍ تتوسلُ إلى النهايةِ، لكنَّ ما يميزها هو عنصرُ الكناية، إذ كنتُ على يقينٍ تامٍّ أنَّ الحياةَ معك أشبه بالسياسةِ التي تعيش دور الدبلوماسيةِ على أسطحِ البلاد الوردية، كنت تحدثني عن أدقِّ التفاصيلِ، عن الوطنِ وموسمِ الحصادِ والأهلِ وأطفالِكَ الرجالِ، حتى إعجابِكَ بالنّابلسيةِ، إلا عن الفراقِ، فكلانا متفق على أنّ الشهادةَ أسمى درجاتِ اللباقةِ في منهجِ الفراق.

جئتك اليومَ لأنك تأخرت عليَّ، مرتديةً جزءاً من الحنينِ الثائرِ، وعلى آخر معطفي يقطنُ ماضٍ جارحٌ حاملةً معيَ كلَّ ما تَبَقّى من جزيئاتِ قلبي.. أتذكرُ ذلك اليوم عندما غزا اسمكَ الشاشات وتألقت في المنشورات، متصدراً صفحات الصحف الأولى، كنت أقول:

ــ ما تزال كما أنت صخرة حربٍ منتفضة!

لم أعلم أن حضورَكَ يعصف العالم هكذا، ولكن صدقني.. ذلك الإعصار لن يضاهي بركان قلبي الثائر، ما أروعك وأنا مقلدةٌ بكوفيتك، وفلسطين تزفك تماماً كما خططنا لزفافنا!

عاهدتُّك فاطمئنْ، سأظل قويةً كفلسطين، وقضية الأرض وثيقة عمرنا، ونسخت مفاتيح الحريةِ لكلِّ بابٍ فأنا أمُّ الشهيدِ وزوجةُ وأختُ وبنتُ الشهيدِ.. أنا التي أتجرَّعُ من نيران قهري العزيمة وأتيتُك بالوفاء لتطمئن، شجرةُ الزيتونِ تعتني بي جيداً والأرضُ تبعث لروحك أحرَّ السلام.