السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

«أم نار».. وحكايات النهر المرّ

«أم نار».. وحكايات النهر المرّ
سميرة الحوسني باحثة وتربوية ــ الإمارات

أطلق عليه السومريُّون النهر المرّ، و بحر أرض «الإله إنكي»( إله الماء والأرض)، وبحر الشروق الكبير، حيث كان استدلالهم على جهة شروق الشمس من أشعتها التي اعتادت أن تعلو أمواجه، أما البابليُّون فسموه بحر كلدو نسبة للكلدانيين الذين استقروا على ضفافه، حتى برز أحد أصدق مؤرخين التاريخ «بيلينيوس الأصغر»، المؤرخ والمحامي والكاتب الروماني، الذي دوّن مئات الرسائل الشاهدة على أحداث العصور الغابرة، والمُؤرشفة في أشهر متاحف روما والعالم القديم حتى هذا اليوم، فجاء بصدق الوصف المعتمد على الشواهد فأطلق عليه اسم «الخليج العربي».

لم يكن هذا الخليج الدافئ مجرد تسمية اختلف عليها المؤرخون القدماء والمعاصرون على حد سواء، بل كان ولا يزال الحضن الحميم لأراضيه وجزره من تيارات لصوص الثقافة ومختلسي الحضارات، ولعلّ السومريون صدقوا في وصفهم له بالنهر المُر، حيث إنهُ أذاق لصوص الحضارات العلقم أثناء حملاتهم في النهب والسلب وغيرها من طرق الاختلاس لكل قطعة ناطقة عن أصالتها من شعابه المرجانية المحفورة على تخوم جزيرة العرب.


أقف أمام وعاء «التيراكوتا» من الطين النضيج المفخور في متحف اللوفر بأبوظبي، وأتامل خطوطه الطولية ونقوش الغزلان على الأكواب الحجرية التي تعود إلى 2500 قبل الميلاد لمستوطنات حضارة «أم نار»، أو كما تُسمى بثقافة أم نار، فما يحمله ذلك الوعاء من طريقة في الصنع وما تصفه نقوش الأكواب الحجرية وأدوات الزينة والأسلحة النحاسية ينم عن ثقافة الزي، وتكنولوجيا أدوات الطعام والشراب التي وصلت لها هذه المنطقة في عصرٍ سحيق، فأن نفسر آثاراً من مواليد ما بعد الميلاد ليس كتفسير آثار العصر البرونزي للفترة ما بين 1800-2500 قبل الميلاد.


إن كل ما تم العثور عليه في خمسينات القرن الماضي لحضارة وثقافة أم نار من أعمال الحملة الدنماركية، وما يتم حتى الآن التنقيب عنه يختلف بطبيعته عما جاوره من ثقافات وحضارات أخرى، فهذه الحضارة قوية المنشأ عريقة الموطن، تعود بجذورها إلى الحضارة «العُبيدية» وهي حضارات ما قبل التاريخ، والتي تسمى بالحضارة الصامتة التي سبقت سومر، لأنها كانت تخلو من الكتابة، فالسومريون هم الذين اخترعوا الكتابة بعد انضمام العبيديّين إليهم ومساهمتهم في اختراع السفن.

وبالرغم من الفحوصات التي خضعت لها آثار الحضارة الصامتة في أم نار عن طريق فحص الكربون 14، إلا أنني لم أشعر بصمتها إطلاقاً، فحديث نقوشها والملمس المعبر لموادها المستخدمة في التصنيع، والتي عاشت ـ ولا تزال تعيش ـ تحت أقدامنا وبين أيدينا اليوم، وبكل وفاء لهذه الأرض، ما هي إلا النطق الأبدي لكل تصوير يعبر عنه الأثر، ولكل قطعة تحمل إخبارية عن تلك المستوطنات وشعوبها الحضارية التي روَّضت الحيوان، وأقامت العمران البدائي لها بصورته المتطورة في عصر برونزي ــ نحاسي، ارتكز على الإنسان بكل إمكانياته، فسعى لتكوين تلك التوليفة المترابطة والمتصلة عبر الأزمنة، فاستقر الظبي والمها منذ عصور ما قبل الميلاد بسبب الرعاية، والمصادر التي توافرت له من الطبيعة والإنسان معاً.

واليوم يفخر المها بأنه المواطن الأصلي لجزر أبوظبي ولأم نار، الحضارة الأكثر نضوجاً للمركب الثلاثي المعروف في هذه المنطقة، وهو حضارة «حفيت» السابقة لأم نار و حضارة «وداي سوق» اللاحقة لها، وهي بأساسها التكويني الراسخ أمام كل عوامل التعرية والتجوية، كانت الأكثر تميزّاً و تطوراً فكرياًما أدى لوصفها بثقافة أم نار.

لقد كانت مختلفة حتى في طريقة دفن الموتى ـ التي تميزت بها عن جيرانها ـ حيث اشتهرت بالدفن بطريقة البناء وليس في باطن الأرض، فالإنسان كان دائماً وأبداً مركز الرعاية المبجلة، أمام أمواج النهر المرّ على شواطئ أم نار، أم الثقافة والنور في مرتعها الأول.