السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

« بِدَائيَّة».. تصلح للحياة

« بِدَائيَّة».. تصلح للحياة
فاضل أبوعاقلة صحفي سوداني مقيم في الإمارات

تقف أمامي تسألني، وجهها في وجهي، عيناها الخضراوان تلمعان في نظرتي.. كأنها كانت تقول كلمات لم تكن تصل إلي.. كأنها كانت تجلس في لغة، وكُنْت أجلس في بهو لغة أخرى.

ولم أدرك لماذا لم أكن أسمع صوتها، كأَنَّ زجاجاً فاصلاً بيننا، وكأنما استقطعتُ وقتاً صغيراً لهدنةٍ، استعطفني حنو عينيها، وانتظارها أن تعرف هذا الكائن أمامها الآتي من أفريقيا، حيث الشمس وشجر التبلدي والنهر الأسطوري وأطلال حضارة كوش؛ كانت تقول في أوقاتٍ أخرى: إن الأمر لا يتعلق بلون البشرة المختلف أو الملامح.


فبلدها الأوروبي المتحضر مليء بالزنوج والهنود والصينيين، الذين اندمجوا وتماهوا مع مجتمعها، وفقدوا طقوسهم المستمدة من الجذور.. طقوسهم، كانت تردد هذه الكلمة كثيراً في محاولة قراءتها لطبائع البشر المختلفة؛ أسئلتها كانت تؤرقني في الكثير من الأحيان، حين تسألني ما هي طقوسك كسوداني؟ ما الذي يميزك عن غيرك؟


لم أكن أجد إجابة رغم بساطة السؤال في شكله.

تقول: إنها تريد أن تتعرف على طقوسي التي تجمعني بغيري من السودانيين حتى إن كنّا لا ندرك ذلك في الأغلب.

جالت أسئلة عديدة في رأسي فلعلها تريد أن تعرف شيئاً عن طقوسي في الحياة، أن تتعرفني في الحقيقة، عادت بي الذاكرة إلى أوقات الطفولة، أنظر من فوق كتف رجل ضخم، صوته رخيم، أسمعه يرد السلام والتحايا على عجل، أنفاسه مستقرة في حركتها صعوداً وهبوطاً رغم خطواته السريعة، يعبر من خلال «النفاج» الواصل بين جدران البيوت إلى باحة «المسيد» الواسعة المفروشة بالرمال الحمراء.. هنا كانت أصوات الجلبة تملأ المكان بالترانيم الصوفية، الأجساد تنقبض وتنتفض على دقات النُوبَة، والدرويش معلق بين الأرض والسماء.

في لحظات الذكر، نعرف أن الوجود الإنساني كله تحركه وتصوغه الطقوس والأفعال الرمزية، وأن الطقوس جزء لا يتجزأ من خبرتنا اليومية، ويمكننا أن نتبين ذلك من تصرفات الدرويش في «المسيد»، من حركاته الجسدية، من إيماءاته، وهو يحاول أن يُخْفي أعراض وصله وشوقه كي لا يراها الآخرون فيبطلون فعل السّحر!

ليتأمَّل الصوفي نفسه، وهو يحاول تدبير حياته الصغيرة في تشابكاتها مع الحياة العمومية، وهو يبحث عن كلماته التي تليق بتمرينه الروحي، بحالته كمريض بالكون، وهو يتمدد في المكان والزمان، في الحاضر وفي الذاكرة، ثم وهو ينكمش كحلزون.

وكيف يلاحق في صمت فكرته الصغيرة وهي تتغلغل في رأسه نملة؟، وكيف ينظر إلى الصورة التي داهمته على سطح روحه؟، وكيف يحاول التوسط بين وضعه كخلاق للجمال وبين الأشياء اللامبالية من حوله التي ينتجها الواقع؟.

أقول لها: ثمة طقوس بدائيَّة ربما في بلادي كما يراها أفراد مجتمعك المتحضر، الإنسان بدائي، حتى حين تنتج تجربته معرفة معينة فهي معرفة شف وليست معرفة عاقلة، الإنسان هو الذي ينتج هذه المعرفة وليست سطوة العقل.. الطقوس ممارسة مشفرة، وهي لا تخلو من جانب سحري، ومن جانب أسطوري (بالمعنى القديم وبالمعنى المعاصر كما بلوره رولان بارت).

هناك لعب باللغة داخل اللغة.. هناك احتفال؛ هناك رقص.. هناك توسط معين بين بعد دنیوي وبعد مقدس في طقوسنا، مقدس لا نهتم به، لا نُعيره أي اعتبار لأننا نحرص على أن تكون أرضية الروح والهوى، وألا تتحول إلى ترتيل أو إنشاد ديني ومع ذلك، فإن فيها شيئاً من ذلك.

في 1912، قال إيميل دوركايم: « بخصوص الأفعال الاجتماعية، لا تزال لدينا ذهنية البدائيين»، ومن يتأمل تصوفنا باعتباره فعلاً اجتماعيّاً أيضاً، فسيدرك إلى أيّ حد هي ذهنيِّتنا بدائية.. بدائيَّة تصلح للحياة فعلاً حين توفر شرط الطفولة والدهشة والبراءة كي يعيش الواحد منا حياةً بيضاء، ويخوض تجربة الصمت، ويبقى في تأمله قريباً من أنفاسه، ومن رقّة ظلِّه، ومن صحرائه، ومن رمله، ومن فراغه، ومن أفقه الأفريقي المفتوح ساعياً وراء ما يحرره ويُحِّرر الحياةَ من حوله.