الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

ما يجوز لأيّ عابر

ما يجوز لأيّ عابر
كثيراً ما يحدث أن تعتلي عرش العاطفة وحيداً، تقف فوق فوضى الحواس، تحيّد العقل إلى أدنى مرتبة في أبعد نقطة ممكنة عن أيِّ منطق.. هكذا تفعل الذاكرة مع كل ممسوس بها، تراوده عن نفسه تلك الأمكنة الأمَّارة بالعودة، حين غادرها ولا سبيل لرجوعه إليها إلا بشق الأنفس أو ارتكاب مغامرة.

منزلي يعرف شكلي، يحدث هذا في كل مرة تأخذني إليه الصدفة، أو بالأحرى يتعمَّد اللاَّوعي صنعها لتبدو كأنها صدفة، من أجل التقرب من الماضي الذي بات ملكاً لصاحبه الجديد، مشاعاً، يخضع لتقلبات الحياة وموازين العرض والطلب.

شعورٌ ملتبس يتعذر على الكلمات وصفه، ذاك الذي يولد في كل مرة أقف بها وجهاً لوجه أمام بابه القديم.. إنها عِشرة هانت عليّ حينما وقع قرار الانتقال إلى أوسع الأمكنة، خذلان حلّ حينما تخليت عنه وهو في أرذل العمر، تركته لقمة سائغة لأيادٍ لا تأبه للسنين، عبثت بتفاصيله بكل ما أمكن من حجج، وصوت أبي وأمي يجلجل في رأسي مثل ضمير استتر ببئر، خشية أن يدلي وارد إليه بدلوه.


تمنَّيت لو أن الساكن الجديد، يهبني فرصة أو نصفها بالدخول إلى منزلي، أن أقف عند بابه، وألصق بذاكرتي جناحاً يحملني نحو أوقات البراءة، أرهف السمع لصوت محمد عبدالوهاب من مذياعنا القديم ممتزجاً بدندنة أبي، والنسخة الجديدة من أغاني سليمة مراد بصوت أمي، لمشاغبات أخي مُتسلِّقاً ما كانت تشبه في السابق شجرة، لشرفة ابنة الجيران وهي تقف على علوٍّ وشاهق السعادة التي تدلقها قسمات وجهها مع كل ظهور.


البيوت لا تنسى أصحابها، حتى لو أنهم اقترفوا الهجر وتاهوا في دروب الحداثة وما بعدها، واتَّخذوا قرارهم باستبدال الذاكرة الحية بأخرى مهزوزة لزجة.. يجوز لأي عابر مسحها.