الاثنين - 29 أبريل 2024
الاثنين - 29 أبريل 2024

ديوانية أبي

ديوانية أبي

عباس ناصر - كاتب

منذ نعومة أظفارنا، بل قبل ذلك بكثير؛ كان مجلسُ أبي يحتلُ جزءاً من دارنا متوسطة الحجم، له مدخلٌ خاص، وكذلك أوانٍ خاصة لوليمة الغداء لكل يومِ جمعة، حيثُ يأتي الضيوف مرحّباً بهم دون دعوة خاصة، وغالبا ما تمتد الجلسة إلى منتصف الليل، إذ كان الجميعُ يشعرون بألفة لافتة في هذا المكان، فلا تكلّف ولا رسميات ولا شيء من ذلك. يأتي الضيوف وربما يأتي معهم ضيوفهم أو أحدٌ ممن يعرفون، ويبدأ السمر، وترتفع الأصوات بالجدال حينًا، وبالضحكات أحيانا كثيرة. وهذا هو ديدنه في مجلسه العامر صيفا وشتاء.

ورغم أن والدي كان يحب السهر وحكايات السمر مع أصدقائه كل ليلة؛ فهو أول من يستيقظ صباحا، إذ كان مثابرا وجادًّا في عمله، ولم يغب عنه يوماً، ولم يكن يشعر بالتثاقل، ولم يكن يقبل منا التأخر عن مدارسنا عندما كنا صغاراً ولا يقبل التغيب بلا عذر قاهر. وكثيراً ما كنا نستيقظ عند سماعنا صوته الشجي الجميل يتلو القرآن في وسط البيت، يا الله! كم كان ذلك الصوت يعطينا بداية مختلفة كل صباح. ذلك الانضباط في العمل تقابله روحه المرحة للغاية في مجلسه، فحين يتحدث يستمع الجميع لحديثه بعناية، له أسلوب في سرد الحكايات يأسر الحضور فيصغون له ولا يقاطعونه، رغم أن بعضهم قد سمعوا تلك الحكايات من قبل، لكنهم يضحكون وكأنهم يسمعونها للمرة الأولى.

كما لا أنسى كم كان والدي صارماً في فرض أصول الضيافة في مجلسه، فالترحيب بالزائر والضيف يبدأ من عتبة الدار إلى أن يأخذ مكانه في المجلس، ويستمر الترحيب وعبارات المحبة. يحدثُ ذلك ونحنُ نراقبه ونتعلم منه أجمل مفردات الترحيب حتى صرنا نحفظها تماما كأسمائنا.

أما تلك الابتسامة التي ترتسم على محياه في استقباله الجميع بلا تمييز. فإنها تأسر الزائر دون مقاومة، وكثيراً ما أسرحُ متأملاً سر تلك الابتسامة الدائمة بالرغم من وضعه الصحي الذي يتأزّم أحياناً كثيرة نتيجة أكثر من عملية أجراها في قلبه لانسداد شريانه.

أدركُ اليوم أنه كان لأبي قبول نادر، وأنّ قلبه وإنْ كان ضعيفاً بتشخيص الطبيب فهو أقوى من قلوب كثير من سليمي البدن، وربما كان قلبه المليء بحب الناس هو سر قوته وبقاء ذكره الطيب إلى هذا اليوم لدى كل من عرفه.

الذكريات كثيرة، وأشعرُ بازدحامِ المواقف الجميلة في ذاكرتي التي لن يمحوها الزمان. اليوم قد قاربت الذكرى التاسعة على موت أبي، صحيح أنه غاب جسداً لكنه باقٍ في ذاكرة المحبين الأوفياء، وستبقى ذكراه الطيبة خالدة، فالطيّبون لا يموتون.