الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

في رحابِ الكتابِ.. وأدب أمّي

في رحابِ الكتابِ.. وأدب أمّي
بقلم: مروان أحمد الشامي كاتب ـــ سوريا

أكادُ أُجنُّ حقّاً!.. إذ كيفَ تستقيمُ نفوسُهم وهم يتجاذبونَ أطرافَ الثَّرثرةِ صباحَ مساءَ؟ واَّنَّى لهم أن يُمضوا يومَهم دُونَ النَّظرِ في كتابٍ، أو يحتملونَ أنفسَهم دُونَ أن يأنسوا إلى بيتِ شعرٍ أو تُحرِّكَهم بلاغةُ أديبٍ؟ وكيفَ يستطيبونَ الطَّعامَ دُونَ إعمالِ عقلِهم بمسألةٍ أُصوليَّةٍ وحسبةٍ تاريخيَّةٍ، أو يخلدونَ إلى النَّومِ دُونَ أن تهاجرَ مخيِّلتُهم بشتَّى البقاعِ سابرةً شتَّى الأحداثِ!؟.

حاولتُ في الأسابيعِ الماضيةِ أن أكونَ بينَهم، ظنّاً مني أنِّي مقصِّرٌ اجتماعيّا، وأن أُجرِّبَ تركَ الكتبِ - وقد أُجبرتُ على تركِها - وأن أرى بعينيَّ وأسمعَ بأُذنيَّ هذا الذي يُسمُّونهُ: علاقات بشريَّة، فلربما أرى أينَ خطئي في الانكبابِ على الكتابِ، وإذ بي أجدُني أكثرَ تمسُّكاً بما كنتُ عليهِ، وأشدَّ تطرُّفاً في المحبَّةِ للقراءةِ، وازدادَ يقيني أنَّ الكتابَ هو أسمى ما يمكنُ أن يجدَهُ إنسانٌ في حياتِهِ، ولكنْ أنَّى لهُ أن يكتشفَ ذَلِكَ وهو في خضمِّ الانحطاطِ الفكريِّ الذي يعيشُهُ في جلساتِهِ البشريَّةِ معَ الآخرين الذين عوضاً عن أنْ يُثروهُ فكريّاً وأدبيّاً يملؤنهُ تفاهةً وعَيّاً.


عندما مارستُ نشاطَهم اليوميَّ، علمتُ لِمَ لا يحتملونَ الكتبَ، إذ كيفَ لعقلٍ يمتصُّ كلَّ تافهٍ أنْ يشعرَ بحزنِ الخنساءِ؟، وهل يستطيعُ الأفَّاكُ الذي يخترعُ القصصَ لتسليةِ الذين يُجاملونَهُ من حولِهِ أن ينقادَ لصدقِ الرَّافعي والعقادِ!! ومن المستحيلِ على مُهرِّجٍ سفيهٍ أنْ يسموَ لتهكُّمِ الجاحظِ!! وليسَ لأحمقَ لا يتحرَّكُ إحساسُهُ إلا لرؤيةِ لاعبٍ وسردِ قصَّةٍ لا يستسيغُها قسمٌ من العربِ الأوائلِ لركاكتِها وفظاظتِها أنْ يُبعثَ قلبُهُ وهو يقرأُ المنفلوطي!! ومحالٌ أنْ يتحوَّلَ بليدٌ عن بلادتِهِ لقراءةِ هجائياتِ جريرٍ ومدائحِ الفرزدقِ!! ولا يُعقلُ أنْ يخضعَ السَّفيهُ لرزانةِ ابنِ قتيبةَ!! وهل لقصَّاصٍ سخيفٍ أن يُصوِّرَ ويتصوَّرَ أيامَ العربِ بمروءتِهم وشجاعتِهم وكرمِهم وفصاحتِهم وبلاغتِهم وشاعريَّتِهم!! من أينَ لهُ أنْ يشعرَ بمرثيَّاتِهم، ويعيشَ في بيدائِهم، وينامَ في خيامِهم!! كيفَ وهو الفارغُ القليلُ أن ينظرَ في النُّجومِ كما نظروا إليها ويرى الرِّمالَ وشوقَهم لها!! كيفَ وهو لا يعرفُ الحبَّ إلا في رواياتِ الجيبِ وتفاهاتِ الأفلامِ أن يشرحَ حبَّهم ولوعتَهم!!.


لا يعرفُ قيمةَ الكلامِ المحرِّكِ للمشاعرِ السَّابرِ لأغوارِ الرُّوحِ إلا نفساً عشقت البحرَ عندَ بواكيرِ الصُّبحِ وغسقِ اللَّيلِ، ونفساً ألفت هدوءَ الواجباتِ، ونفساً سحرَها انتثارُ الرَّملِ تحتَ النُّجومِ، ونفساً استأنست بالله واستوحشت من النَّاسِ، فأدركت لِمَ كانت معجزةُ محمَّدٍ ﷺ كتاباً.

لا أقولُ إنِّي أريدُ أن أُبحرَ بل أريدُ أن أغرقَ في أمواجِ الكاملِ، وأنْ أتوهَ بينَ قوافي ابن كلثومٍ، وأنْ أعيشَ عندَ أطلالِ امرئِ القيسِ، وأنْ أسريَ على صهوةِ أدهمِ عنترةَ، وأن أجلسَ في خيمةِ المجنونِ لأُعلِّمَ علماءَ النَّفس أنَّ الحبَّ ليسَ نظريةً علميَّةً يدرسونها، وأنْ أجوبَ اللَّيلَ في ركبِ الصَّعاليكِ لأُثبتَ للغربِ أنَّ أساطيرَهم (روبن هود) عندنا واقعٌ نعيشُهُ، وأنْ أسيرَ معَ حسَّانَ وابنِ رواحةَ أرقبُ كيفَ تتحوَّلُ الكلماتُ إلى سهامٍ تُكلِمُ وتشفي، وأن أجثوَ عندَ ابنِ الرَّيْبِ أبكي أبياتَهُ، وأنْ أُسامرَ كلَّ أديبٍ - وليسَ كلُّ مَن كتبَ الأدبَ أديباً - أخبرُهم أنَّ العيشَ دُونَ ما كتبوهُ سجن.

والأكثر من هذا كله، أنْ أُلقيَ رأسي على صدرِ أُمِّي أُنصتُ إلى قوافيها لأدركَ أنَّ الجمالَ والحلاوةَ والطَّلاوةَ والبلاغةَ والسُّموَّ الأدبيَّ والعبقريةَ والرُّقيَّ تجمَّعَ فيها، لأستفيقَ إلى حقيقةٍ: لربما ـ أقولُ ربما ــ يكونُ هناكَ أجملَ من شعرِها وأحلى من أدبِها، لكنْ كلّ ما كتبَهُ المتقدِّمونَ والمتأخِّرونَ لا يربطُني، ولا يشدُّني، ولا يؤثِّرُ فيَّ، ولا يظهرُ لي أنَّهُ مني، كما يفعلُ أدبُ أمي وشعرُها.