الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

نفحات العفو.. والإحساس بالذات

نفحات العفو.. والإحساس بالذات
محمد عبدالله عبدالرحمن كاتب - الإمارات

منذ أن وعيت على الدنيا والصحة تشكل عندي ذلك الهاجس الدائم.. تُرى لماذا أسعى دائماً لأن أكون صحيحاً؟ لماذا أبدأ بالشك المسبق في إمكانية صحة ما سأقوله أو سأفعله أو ما أعتقده في أعماقي؟ فأحكم من خلال ذلك على قواي العقليَّة بالأشغال الشَّاقة المُؤبَّدة، مُسخّراً إياها بلا راحة في تقييم ردود الفعل المتوقعة والنتائج المترتبة، والتي في مجموعها تشكل لدينا ما اعتدنا الاصطلاح عليه بـ«المخاطر»، وبعبارة أخرى فإننا نفترض هنا النجاح أو الفشل في كل حركة أو قول أو حتى خاطرة، في سباق لا تنتهي موازينه ولا يمكننا حصر مُقيّمِيه.. فكيف لنا أن ندرك حيثيات ذلك الحكم المؤبد الصادر على عقولنا والملقي بها في تلك الدوامة الأبدية؟

كانت هناك طفولة بريئة، مدركة للعالم إدراكاً مفتوحاً، واعية بأن لكل مشهد زمني نهاية، ومدركة بشكل أخص أنه وببساطة لا يمكننا الحد من الخطأ إلا عبر اقتناعنا بخطئه ذاتياً.


يبدأ الطفل تدريجياً بالاصطدام بالرياضيات، نعم، ذلك النظام الكوني الدقيق المقيد لكل ما في الوجود من مظاهر، فيكتشف هنالك أن لكل رغبة آلية تحصل بها على نتيجة الفعل المرجوة أو غايته المتحصلة.. يعلم أنه قادر على استيعابها والعيش معها، فهي صنوه وتوأمه في عالم الأعداد، وقد وُجِد بينها، إذ يبدأ اللعب بها شكلاً ومضموناً ليصنع بإبداعه وحماسه عالمه المحيط والمناسب.


وفي المدرسة، فإن ذلك الطفل يفاجأ بحزن حائر بأن جواب تلك المسألة الحسابية في ورقة امتحانه، والذي يمكنه الوصول إليه بلغته الخاصة في عقله البكر خلال زمن قصير، لا يمكن أن يتم إلا عبر نمط واحد وفي زمن محدد، وبخيبة أمله، إذ يكتشف أنه لا يمكن أن يعتبر ناجحاً إلا لو أجاب وفقاً لذلك النمط.. يرجع كسير القلب إلى المنزل، فيفاجأ بعلامات عدم القبول بادية على وجه والديه، لأنه، ورغم أنه لم يقترف جرماً، لم يُعترف به في قائمة الناجحين.

وإن اقتصرت تلك القطيعة في تعايشنا الذاتي المطبوع مع نظام وجودنا المحكم على المدرسة كان الأمر هيناً، فإن ذلك الطفل وعبر سنوات نشأته يتعلم عبر المخالطة والمعاشرة بأنه لا يوجد إلا حل واحد أو حلول معدودة مسبقاً لكل مشكلة، وأنه إن لم يأت بالحل المناسب وفقاً للطريقة التي يقبلها مقيموه في هوايته أو احترافه أو معاملته مع الغير أياً كانت، فلا مناص من أن يعيش منبوذاً ملوماً، فنراه إذا كبر استبدل فرشاة رسمه أو قلمه أو آلته الموسيقية، بكتب الطب والهندسة، أو تخلص من شغفه بالحيوانات والطيور أو بالفلسفة ومعالي الأمور، وأدمن جلسات المقاهي ونزهات مراكز التسوق.

تلك القرارات المبنيَّة على رغبتنا في الصحة، والمرتكزة على شعورنا العميق بغلبة إمكانية عدم الاتساق مع المطلوب منا، هي أسوار ذلك السجن الذي تقوم فيه عقولنا بنوبات مستمرة من الأشغال الشاقة المرتبكة والمتحسبة لأيّ زلل قد يوقعها في الخطر الأعظم، ألا وهو عدم التقبل.

في غمرة تلك العقوبة طويلة الأمد ينسى ذلك الطفل الكبير ذاك الشعور المرتبط بتلك اللحظات التي تعقب انتهاء الامتحانات، لحظات التحرر، ولمحات الشعور المريح بعدم حاجة العقل إلى القيام برحلته اليومية بحثاً عن صحة الحركات والأفكار والمشاعر والسلوكيات.. ذلك الشعور الذي يشعر به كل من قضى وقتاً طويلاً في جهد جهيد، وأتت بعده لحظة العفو.

في لحظة العفو نحس بذواتنا بشكل مجرد، منسلخ عن الشعور بالذنب والتقصير، وناسين فيها كل خوف من رقيب أو حسيب.. اللهم إنك عفو كريم رحيم تحب العفو كل العفو فاعف عنا.