الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

ساحرة آسرة.. لكنها مجنونة

ساحرة آسرة..  لكنها مجنونة
لم يكن يفصلنا عن أكبر ملعب لكرة القدم، سوى جدار يتوسطه باب كبير يظل مفتوحاً طوال الوقت، وعليه كان حضورنا الأسبوعي لمتابعة مباريات الدوري والكأس، وكذلك المباريات الدولية والوّدية لا يكلفنا شيئاً، وصادفت تلك الفترة التألق الكبير للفريق الوطني (الجزائري)، الذي ذاع صيته عندما هزم الألمان في موقعة «خيخون» الإسبانية، وعليه صار العديد من الفرق الوطنية والأندية يتمنى مواجهة هذا الفريق المتألق.

تذكَّرتُ هذا، وأنا أستمتع هذه الأيام، كباقي الخلق بكأس الأمم الأوربية، وبعض من مباريات «كوبا أمريكا»، وتذكرت أيضاً أحد زملائي، من سنوات الجامعة، كان رسّاماً مبدعاً، يقضي أغلب أيام نهاية الأسبوع في ممارسة هوايته، اقترحت عليه مرافقتي لمشاهدة إحدى المباريات المهمة، لم أعد أذكر الفريق المنافس، فوافق على المقترح.

قصدنا الملعب، وكان يومها مكتظّاً بالمتفرجين، أخذنا مكاننا بين الجموع وهي تهتف بحياة الفريق وحياة الجزائر بدون توقف.. جلس صديقي بجانبي، بدأت المقابلة، بعد دقائق أعاد أحد المهاجمين الكرة إلى وسط الميدان، الذي بدوره أرجعها إلى زميله المدافع، الذي أعادها إلى الحارس، لجلب فريق الخصم والبدء في هجوم جديد.


استدار صاحبي إلي وهو يردد:


ــ هذا لاعب فاشل، ولا يستحي!

سألته: ماذا حدث؟

أجابني: كيف لم يتمكن من التّسجيل، وكان وجهاً لوجه مع الحارس!

قلت له: هذا حارس فريقه.

ففاجأني بأن أضاف:

ــ المهم أن يسجل الهدف!

هنا تيقنت، ولأول مرة،أن صديقي لا يفقه في اللّعبة شيئاً.

سألته على التّو: أتجهل قواعد اللعبة؟

فأجابني: هل تعلم أن هذه أول مرة في حياتي تطأ قدماي ملعباً رسمياً لمتابعة مباراة في كرة القدم؟، وهل تعلم أنني كنت الوحيد في بلدتي الذي لم يتابع مباراة الجزائر الشهيرة ضد ألمانيا؟.. لقد استمتعت يومها، بأن كنت وحيداً على شاطئ البحر!

أتذكر زميلي، وأتذكر القصة كلما شاهدت مباريات كبيرة في كرة القدم، إذ لم يعد هناك من لا يحب هذه «السّاحرة» إلا القليل من الناس. قبل سنوات لاحظت أن النّساء في بلادي وقبل انتشار الفضائيات والقنوات الرياضية المتخصصة، يتبرمن من أمسية الأربعاء، إذ كان التلفزيون الجزائري في عهد القناة الواحدة، وضمن عقد مع «الأورفسيون» يقدم مباراتين مساء كل أربعاء، وكنت أستمع حينها من أمي وأخواتي لـ«حديث الأربعاء»: «ما أطول هذه الليلة؟.. لماذا يُفرض علينا متابعة مباراتين في أمسية واحدة»؟

توالت الأحداث، وتطور البث وتعددت القنوات، وتغلغلت كرة القدم بين البشر، وتعددت المنافسات، كأس العالم، كأس أمم أوروبا، كأس أمم آسيا، كأس أمم أفريقيا، دوريات الأندية القارية، الدوريات المحلية.. وأصبحت كرة القدم من الأدوات التي تسوّق عبرها صورة الدول والحكومات، وازدادت حالة التّعبئة والتجييش للجماهير، وأسهمت وسائل الإعلام بدور كبير في هذه «الهستيريا والعصبية والجنون»، كيف لا وأغلبها يعنون مقدمات النشرات الإخبارية، وأخبار الصحف في المباريات المصيرية بعبارة : «المباراة.. قضية حياة أو موت»!

لقد أصبحت كرة القدم مجال اهتمام كل الشرائح الاجتماعية، ولم تعد لعبة «ذكورية» بل حتى النّساء اقتحمن عالم الكرة المستديرة، ممارسة ومهنة ومتابعة.

ففي بلادي مثلاً، طلقت النساء المطبخ، وطلّقت معه الأفلام والمسلسلات، وجلست جنباً إلى جنب مع الزّوج والأخ في الملعب والبيت لتشاهد وتشجع وتتعصب وتحلّل، حتىّ إن مدرّب الفريق القومي سابقاً «وحيد خليلوزيتش» علّق على هذه الوضع قائلاً:

ــ في الجزائر 40 مليون مدرب، يطلبون صوراً تذكارية، وبعدها يمنحونك التشكيلة الأساسية.

قبل سنوات، سأل صحفيُّ شخصاً إيطاليّاً عن رأيه في الديمقراطية والحياة السياسية في إيطاليا، فأجابه:

ـــ في إيطاليا لعبتان: الأولى قمة في الرّداءة، هي الديمقراطية، والثانية قمة في المتعة، هي كرة القدم!

أخيراً، كلما شاهدت هذا «الجنون الكروي» تذكرت صديقي، وتساءلت:

ــ هل لا يزال غير مبالٍ بهذا الجنون؟، وهل إلى الآن لا يفقه في هذه اللّعبة شيئاً، أم أنه اصطفَّ مع الجموع، مع الأصدقاء، ومع الزوجة والأبناء، خوفاً من اتهامه بالجنون؟