الاثنين - 29 أبريل 2024
الاثنين - 29 أبريل 2024

في المملكة المتحدة... «معجزة التوظيف» تتحوّل إلى كابوس

في المملكة المتحدة... «معجزة التوظيف» تتحوّل إلى كابوس

في كيسويك، المنطقة السياحية في شمال غرب انكلترا، يمكن العثور عند كلّ المفارق على إعلانات تتضمّن عروض توظيف مختلفة وبشروط ميسرة، مثل «مطلوب طبّاخان، أجر ممتاز. السكن مؤَمن»، و«نوظّف. الخبرة غير ضرورية».

إنها «معجزة التوظيف» البريطانية التي ينسبها المحافظون لأنفسهم. فالمملكة المتحدة لم تشهد هذه النسبة المنخفضة من البطالة منذ حوالي 50 عاماً، لا سيما أنها تبلغ حالياً 3,8%. ووفق تعريف منظمة العمل الدولية، يكفي أن يكون معدّل البطالة أقل من 5%، لينطبق على هذه الحالة مصطلح العمالة الكاملة.

يقول توني ويلسون من معهد دراسات التوظيف «هذا أفضل سياق للعمّال منذ عشرين عاماً، إلّا أنه ليس خبراً ساراً للاقتصاد».

في مقهى ريليش الصغير الواقع على طريق المشاة في كيسويك، تبدو أليسون لامونت (60 عاماً) منهمكة في عملها. بنظّارتيها وشعرها الأشقر ترحّب بالزبائن، في الوقت الذي تهتم فيه بإدارة صندوق النقود وتقديم المشروبات والكعك، بينما يعدّ زوجها الساندويتشات والأطباق الساخنة في الطابق العلوي.

تقول لامونت التي اشترت المقهى مع زوجها قبل ثلاث سنوات ونصف، لوكالة فرانس برس، إنه منذ نهاية الحجر المرتبط بوباء كوفيد، «انتقلنا إلى البيع السريع؛ لأنّه لم يكن لدينا وقت لتنظيف الطاولات».

يتألف فريق عملهم من أربعة أشخاص، لكنّ الأمر يتطلّب شخصاً خامساً لتحقيق إيقاع مقبول ومستقر. وعلى الرغم من البحث عبر الشبكات الاجتماعية وطلبات التوظيف الشفهية، فإنّها لا تجد أيّ شخص. وتقول متنهّدة إنّ الشباب يريدون «أن يكونوا مؤثّرين أو أن يعملوا من المنزل».

أخيراً، لم تعد تقضي «عطلات نهاية الأسبوع» مع زوجها، وذلك كي تتمكّن من تبديل أيام الراحة معه، من دون إغلاق المقهى.

يكفهرّ وجهها عندما تعترف بأنها لا تنام بشكل جيد في بعض الليالي. وتؤكد «لا يمكننا رؤية نهايةٍ لهذا الواقع. لا يمكننا الصمود على هذا النحو إلى الأبد».

بعيداً قليلاً من شارع المشاة، اضطرّ المطعم في فندق جورج إلى الإغلاق لثلاثة أشهر ونصف؛ بسبب عدم وجود طاهٍ، وفي ظلّ عجز وصل إلى 30 ألف جنيه استرليني أسبوعياً.

الأمر مشابه في معظم المَحال التجارية في المدينة، وأيضاً في العديد من المناطق في بقية البلاد.

في لندن، تقول صاحبة صالون تجميل لوكالة فرانس برس، إنها ذهبت إلى حدّ الاستعانة بباحث عن الكفاءات من أجل العثور على خبيرة تجميل، ولكن من دون تحقيق أيّ نجاح إلى الآن.

أما شركات الطيران مثل «إيزي جيت» و«الخطوط الجوية البريطانية»، إضافة إلى المطارات التي سرّحت آلاف الأشخاص في ذروة الوباء، فقد باتت مضطرّة إلى إلغاء آلاف الرحلات بسبب نقص اليد العاملة.

بريكست وكورونا

يقول جاك كينيدي الخبير الاقتصادي في موقع الإعلانات المبوّبة «إنديد»، «منذ إعادة فتح الاقتصاد العام الماضي، تجاوز الطلب على العمّال عدد الباحثين عن عمل، لا سيّما في المجالات ذات الأجور المنخفضة التي تتطلّب مهارات متدنّية مثل التنظيف والمستودعات والتوزيع والبناء».

وفي ظلّ الوباء، ترك العديد من البريطانيين سوق العمل بسبب فيروس كورونا وأمراض أُخرى واستئناف الدراسة، أو حتى التقاعد المبكر.

وفي المجموع، خرج ما مجموعه 447 ألف شخص في سنّ العمل من السوق، مقارنة بما كان عليه الوضع قبل الوباء.

وفي حين يبقى «معدّل حركة الوظائف في فرنسا أو ألمانيا أعلى ممّا كان عليه قبل كوفيد، إلّا أنه في المملكة المتحدة لا يزال أقل»، وفق توني ويلسون.

وقد ساهم خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في تفاقم الوضع، فيما كان من المقرّر أن يؤدّي إلى استغناء المملكة المتحدة عن العمالة الأجنبية، وفقاً لمهندس «بريكست» بوريس جونسون. ففي المزارع مثلاً، بات من الصعب جداً العثور على عمّال موسميين للحصاد.

يقول ديريك ويلكينسون، المدير الإداري لشركة «ساندفيلد فارمز»، وهي شركة زراعية كبيرة في وسط البلاد، إنّ الوضع «لم يكن بهذه الصعوبة على الإطلاق».

وبعينين صافيتين وابتسامة وديّة، يوضح أنّه منذ الخروج الفعلي من الاتحاد الأوروبي في بداية العام 2021، بات على العمّال القادمين من أوروبا الشرقية الحصول على تأشيرة موسمية خاصّة، الأمر الذي قد يستغرق سبعة أسابيع، وذلك بعدما كانوا يأتون ويذهبون بحرية. ويشير جاك كينيدي من «إنديد» إلى أنّ الاّمر يتعلّق بنقص ما بين 200 أو 300 ألف عامل أوروبي.

وقد بات من الواجب البحث أبعد من ذلك، في أوزبكستان والفلبين وجنوب أفريقيا، للعثور على عمّال موسميين جدد لا يعوّضون بالكامل نقص الأوروبيين.

وقلّة من البريطانيين يريدون هذه الوظائف التي لا تعدّ صعبة فحسب، ولكنها توفّر فقط بضعة أشهر من الدخل، بينما يجدها الأجانب مفيدة لأنّ الحياة أرخص في بلدانهم الأم.

وبالنسبة لمَزارع «ساندفيلدز»، فإنّ العواقب كارثية، إذ خسرت محصول الهليون - أكثر من 40 ألف كيلوغرام، و750 ألف حزمة من البصل الربيعي- لأنّ 120 ألف عامل فُقدوا في مايو.

وفي ظلّ ارتفاع الفواتير، سيتقلّص ربح المزرعة بنسبة 50% على مدار عام واحد.

التدليك والعلاج بالعطور

لاجتذاب العمّال، بات من الضروري أن يقدّم أصحاب العمل المزيد. مثلاً، حسَّن ديريك ويلكينسون حالة 400 «منزل متنقّل» لعمّاله الموسميين. كما اشترى صاحب مطعم في كيسويك مبنى لإيواء عمّاله.

تُشنّ الشركات حرب أجور حقيقية. ويقول غاري ماركس، صاحب فندق جورج في كيسويك «كنّا ندفع سبعة جنيهات في الساعة، ولكننا الآن ندفع عشرة أو أحد عشر أو حتى اثني عشر جنيهاً»، أي ألفَي إلى 3 آلاف جنيه إضافي في السنة للطهاة.

باتت المرونة جزءاً من الطُعم أيضاً. إذ يمكن للموظفين العاملين في شركة «برايسواترهاوس كوبر» المتخصّصة في مجال التدقيق، المغادرة في وقت أبكر يوم الجمعة.

في جميع أنحاء البلاد، تشارك عشرات من الشركات في اختبار أسبوعي مكثّف يعتمد على العمل أربعة أيام فقط. حتّى أنّ بعض الشركات الصغيرة والمتوسّطة تقدّم لموظفيها جلسات التدليك أو العلاج بالعطور.

لكن يبدو أنّ لا شيء يوقف «الاستقالة الكبيرة» في مجال العقود غير المستقرّة، فقد غيّر مليون شخص وظائفهم في ربعٍ واحد من السنة في المملكة المتحدة، بحثاً عن مزيد من المال وأيضاً عن حياة أفضل.

تلك هي حال لورنا روبرتس، البائعة في متجر «ألبكيت» في كيسويك. فقد عملت حتى قبل بضعة أشهر في مجال المطاعم، لكنّها قرّرت تغيير حياتها بعد إنجاب طفل.

تقول الشابة ذات العينين الزرقاوين والشعر البنّي الطويل بصوت عميق، «بعد الحجر، بات الناس أكثر فظاظة، وكنّا نفتقر دائماً إلى الموظّفين. انهار بعض الزملاء خلال عملهم، وأصيبوا بنوبات هلع».

وجدت روبرتس بسهولة وظيفة أقل إرهاقاً وأكثر انسجاماً مع ميلها للطبيعة. تقول «رأيت إعلاناً على واجهة المتجر وتقدّمت للوظيفة». الآن، باتت تحصل على 10 جنيهات في الساعة مقابل 9,50 جنيهات كانت تتقاضاها في السابق، أي الحد الأدنى للأجور.