الاحد - 28 أبريل 2024
الاحد - 28 أبريل 2024

أوروبا العنيفة.. أدوات عمرها 3000 عام تكشف «معارك ملحمية»

كان الجليد يتساقط بغزارة كعادته في هذا الوقت من العام، إلا أن الجو شديد البرودة لم يمنع عصبة رجال من التجمع من اتخاذ قرار مصيري، فالموارد أصبحت شحيحة، في الوقت الذي ينعم الجيران بأراضٍ خصبة ومحاصيل وفيرة.

قرر هؤلاء الرجال - الذين يشغلون مناصب عليا في قومهم - إعلان «التعبئة العامة» للإغارة على القبائل المجاورة، طمعاً في الحصول على تلك الموارد.

هذا هو دافع الحرب، في كل زمان ومكان، ولاسيما في ذلك الزمن البعيد، الذي يبعد عن وقتنا الحالي بنحو 3000 عام. ففي العصر البرونزي كانت أوروبا مكاناً عنيفاً، لكن في الآونة الأخيرة فقط، اكتشف العلماء نطاق ذلك العنف.


ففي موقع عمره 3000 عام، يقع شمال ألمانيا، حارب الآلاف من الشباب المسلحين تسليحاً جيداً بمعدات متطورة في معركة ملحمية، إذ تشير مجموعة كبيرة من القطع الأثرية والأدوات البرونزية الموجودة في قاع النهر إلى أن بعض هؤلاء المحاربين سافروا مئات الكيلومترات للقتال.


وهو ما يعني أن مجتمعات شمال أوروبا كانت منظمة على نطاق واسع بحيث يمكن للزعماء دعوة المحاربين إلى ساحات القتال البعيدة، قبل وقت طويل من أنظمة الاتصالات الحديثة، أو المعارف العسكرية الجديدة، أو حتى الطرق الممهدة التي تستطيع الجيوش السير فيها بسهولة.

اندلعت المعركة في وادٍ ضيق مليء بالمستنقعات يمتد على طول نهر تولينس، على بعد 160 كيلومتراً شمال برلين.

بعد انتهاء المعركة، ترك الجنود بعض أدواتهم في المكان، كما خلفوا وراءهم مجموعات كبيرة من أسلحة القتلى، جُرفت تلك الأدوات إلى النهر القريب ودُثرت بالطمي، حتى عثر العلماء عليها في حالة «بكر».

ويقول عالم الآثار في مكتب ولاية سكسونيا للتراث الثقافي في هانوفر توماس تيربيرغر، وهو المؤلف الأول لدراسة أُعدت حول الاكتشاف الجديد، إن كمية الأدوات التي عُثر عليها «مذهلة» مشيراً في تصريحات خاصة لـ«الرؤية» إلى أن تلك الأدوات تشمل مجموعات شديدة التنوع من الأسلحة المكونة من الخشب والمعدن، ويبلغ عددها أكثر من 12 قطعة.

وبحسب ما تشير الورقة العلمية المنشورة في دورية «نيتشر»، يُعد ذلك الاكتشاف مهماً للغاية بسبب طبيعته التي لا تكشف فقط عن الطريقة التي حارب بها الأقدمون، بل توضح أيضاً النظم الاجتماعية والسلطوية التي سادت أوروبا في ذلك التوقيت المبكر، وتكشف عن أعداد الجيوش النظامية في هذا الزمان، وطريقة تعبئتها.

عثر العلماء على ذلك الموقع لأول مرة عام 1996، وتم اكتشاف الأدوات عام 2016.

ويقول تيربيرغر في تصريحاته، إن أهم ما في ذلك الاكتشاف هو «صندوق أدوات كامل منسي لأحد الجنود».

حافظت الظروف المائية والعوامل الجوية على جودة بعض الحفريات، إذ حفظ الطمي أجزاء من الخشب، بما في ذلك مقابض الأسلحة، وهو ما ساعد العلماء على تحديد تاريخ الاكتشافات، كما عثر الغواصون على بعد أمتار قليلة من الأسلحة البرونزية على المزيد من حطام المعركة، بما في ذلك رؤوس الأسهم، ودبابيس كانت تستخدم لتثبيت الملابس، وسكاكين برونزية بمقابض عظمية وضلع بشري.

وقد قام العلماء بفحص تلك البقايا باستخدام نظائر الكربون لتحديد تاريخها، ليشير ذلك الفحص إلى عمرها البالغ حوالي 1300 عام قبل الميلاد، ما يدعم فكرة أنها كانت جزءاً من حدث واحد.

أثناء عمليات التنقيب، عثر العلماء على تحفة فريدة مُكونة من صندوق برونزي مع سكين من المعدن ذاته، علاوة على إزميل صغير، ورأس سهم. وبحسب الدراسة، يبدو أن تلك الأدوات تنتمي لشخص واحد، وعلى الأرجح، نسى ذلك الجندي الصندوق، واحتفظ الوحل السميك لقاع النهر بالأدوات بصورة جيدة، حتى عثر عليها الغواصون بعد كل هذا الزمن.

في أوروبا، وعلى مدى العقود الماضية، عثر العلماء على عشرات القطع البرونزية، من ضمنها أسلحة صغيرة، كما عثروا أيضاً على قبور للمحاربين من ذوي المكانة العالية في جنوب القارة العجوز، وعلى طول التلال الشمالية لجبال الألب من شرق فرنسا وصولاً إلى جمهورية التشيك، إلا أن تلك المجموعة تُعد هي الأولى من نوعها «على مستوى العدد» من الأدوات البرونزية التي تم العثور عليها في أقصى الشمال.

ويدعم الاكتشاف الجديد الفرضية القائلة بأن المحاربين في العصر البرونزي سافروا مئات الكيلومترات بعيداً عن وطنهم، وصولاً إلى ساحات المعارك، ما يدل على أن أوروبا القديمة عرفت التنظيم الاجتماعي، وكونت مجتمعات تتدرج فيها السلطات، كما تؤكد أن تلك المجتمعات تمتعت بالقدرة على الدعوة للتعبئة العامة، ووضع خطط للحروب، وتمكنت من تجهيز الجيوش للقيام بالإغارة والغزو والهجوم، أو الدفاع عن الممتلكات، وهي سمة لا تزال متأصلة إلى الآن في المجتمعات الحديثة.

وتتوافق القطع التي عُثر عليها مع الأدلة السابقة على أن بعض العظام المكتشفة في الموقع ذاته - الذي تبين الآن أنه كان موقعاً لمعركة ملحمية - تحتوى على خصائص مورفولوجية وتشريحية ومحتويات معدنية لا تتطابق مع مثيلتها للأشخاص الذين تربوا في المنطقة، وهذا يعني أنهم مجموعة من «الغرباء» الذين جاءوا «للحرب والإغارة» على حد قول تيربيرغر.