الاحد - 19 مايو 2024
الاحد - 19 مايو 2024

السودان بعد الإخوان.. الخروج من وكر الثعالب

لم يظن السودانيون وهم يرفعون علم استقلالهم عن الاستعمار في الأول من يناير 1956، أن دولتهم الوطنية ستنحدر إلى الدرك الذي يعيشونه الآن.

كانت أمام السودان فرص عظيمة ليصبح سلة غذاء العالم، وأن يصدّر العقول المتعلمة إلى خارج البلاد، وأن يواكب التطور التكنولوجي، خصوصاً أن دولة ما بعد الاستعمار وعدتهم بمواصلة التنمية وفتح آفاق أرحب نحو التقدم والازدهار.

ولكن، وعود دولة ما بعد الاستعمار صارت هباء منثوراً، وأضحى السودان بعد صباح يوم 30 من يونيو 1989 مضرب مثل في الفشل وتنكب الطريق.


في 30 يونيو 1989 نفذت الحركة الإسلامية السودانية (المرتبطة بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، والذي حمل فرعه السوداني اسم الجبهة الإسلامية القومية) انقلاباً على الحكومة الديمقراطية المنتخبة، التي أتت بعد انتفاضة شعبية على نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري 1985.


ووجدت الحركة في عمر حسن أحمد البشير الذي كان وقتها عميداً بالجيش «حصان طروادة» الذي حاولت الاختباء داخله والتمويه على هوية الانقلاب.

وأطلق السودانيون على نظام الحكم الجديد، نظام «الكيزان»، وهي جمع كوز أي وعاء شرب الماء، وهي تسمية تطلق على منتسبي تنظيم الإخوان المسلمين في البلاد، بعدما قال مرشد الحركة في السودان الدكتور حسن الترابي في ندوة، إن الدين بحر وهم كيزان يغرفون منه.

وإمعاناً في التضليل، وضعت الحركة مرشدها العام وزعيمها الترابي ضمن المعتقلين السياسيين في سجن كوبر، في واقعة كشف الترابي عنها بعد خلافه مع البشير في 1999، حيث قال إنه أبلغ الجنرال «اذهب إلى القصر رئيساً وسأذهب إلى السجن حبيساً».

ولم تضع الحركة الإسلامية وقتاً، فسرعان ما عملت على تمكين كوادرها من مفاصل الخدمة المدنية، وصفّت مؤسسات الدولة، وأحالت كل شخص لا ينتمي إليها أو تضمن ولاءه إلى فصل مبتكر أسمته «الإحالة للصالح العام».

وبحسب الباحث الاجتماعي والمحلل السياسي السوداني الدكتور حيدر إبراهيم علي، تشير الإحصاءات الرسمية للصندوق القومي للمعاشات إلى أن إجمالي عدد الذين أحيلوا إلى المعاش منذ عام 1904 حتى عام 1989 بلغ 32419 موظفاً، بينما شهدت الفترة بين (30 يونيو 1989 و29 سبتمبر 1999) إحالة 73640 موظفاً! أي أن عدد من شردتهم الإنقاذ من وظائفهم ـ لأسباب سياسية في الغالب ـ خلال عقد واحد أكثر من ضعف من أحيلوا للتقاعد خلال 85 عاماً (بارتفاع 127%)، وبحسب لجنة إعادة المفصولين السودانية، فإن الذين تم إحصاؤهم من المفصولين تعسفياً بلغوا حتى عام 2019 أكثر من 350 ألف موظف.

ووفقاً لتجمع قدامى المحاربين، فصل نظام البشير تعسفياً أكثر من 2.5 مليون من العاملين في الحقل العسكري خلال 3 عقود من عمره.

وجندت الحركة الإسلامية التي استلمت حكم البلاد الطلاب في صفوفها منذ المدارس الثانوية، وأرسلتهم إلى الحرب في جنوب البلاد ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق المعارض الجنوبي، وفصائل المعارضة الشمالية التي انضمت إليه لاحقاً.

كما أرسلت الطلاب إلى معسكرات تأهيلية لتضمهم في صفوف جهاز أمنها.

وفي تقرير قدمه خلال جلسة مغلقة في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في جنيف، بعد أقل من 4 سنوات من حكم الإسلاميين ـ في 24 فبراير 1993 ـ أحصى الخبير الدولي المستقل، ومبعوث الأمم المتحدة إلى السودان الدكتور غاسبار بيرو عمليات انتهاك لحقوق الإنسان وأعمال تعذيب وقتل وإعدامات جماعية، إضافة إلى تشريد ممنهج من العمل وكبت للحريات في السودان.

الحياة البشرية أرخص شيء

بدأ بيرو تقريره بعبارة محزنة، أكد فيها أنه «ليس هناك شيء أرخص من الحياة البشرية في السودان»، مشيراً إلى أن نظام الرئيس البشير والحركة الإسلامية مارس عمليات قتل خارج القانون وإعدامات جماعية بصورة واسعة.

وقال بيرو «ربما كانت أكثر حالة معروفة من الإعدامات بالجملة في السودان هي إعدام 28 من كبار ضباط الجيش في أبريل 1990 بعد اتهامهم بمحاولة تنظيم انقلاب. وتذكر جميع المصادر أن المحاكمة استغرقت أقل من ساعتين، ولم يُسمح لأحد بالاستئناف، وتم تنفيذ الأحكام على الفور، وقتلوا جميعاً بدورة واحدة من نيران مدفع رشاش في المكان الذي دفنوا فيه».

من جانبه، يورد الكاتب والسياسي السوداني فتحي الضو في كتابه «بيت العنكبوت»، فصولاً عن الآلاف الذين تعرضوا لأبشع أنواع التعذيب في معتقلات نظام البشير، التي أسماها السودانيون «بيوت الأشباح».

ومن أبرز الجرائم ما تعرض له الطبيب علي فضل من تعذيب لقيادته إضراب الأطباء بعد شهرين من انقلاب البشير في 1989، حيث غرسوا مسماراً في أم رأسه.

وبالفعل توفي فضل في عام 1990 بعد أشهر قليلة من انقلاب البشير.

وحين اندلعت ثورة ديسمبر 2018، في كل مدن السودان، حاملة شعار «تسقط بس»، و«مدن السودان تنتفض»، واجه النظام المتظاهرين العُزّل بالطلقات النارية، واعتقلوا الألوف وعذبوهم، ولكن تظل قصة الشهيد المعلّم أحمد الخير عوض الكريم بمعتقلات الأمن بمدينة خشم القربة بولاية كسلا شرقي السودان، من أبشع الفصول، حيث تم وضعه على خازوق بصورة تشبه بربرية القرون الوسطى، لا لسبب سوى اتهامه بتنظيم تظاهرات سلمية ضد النظام.

ووصف ناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي همجية نظام الإخوان بقولهم إن حكم «الكيزان» بدأ بمسمار في رأس طبيب واختتم بخوزقة معلم.

في السياق ذاته، كانت الحرب تستعر في إقليم دارفور (غربي السودان) منذ عام 2003، ووثقت تقارير الأمم المتحدة انتهاكات للقانون الإنساني الدولي وانتهاكات لحقوق الإنسان منها الاغتصاب والعنف الجنسي ضد المجتمعات المحلية في دارفور بمن فيهم النازحون داخلياً.

هذا إضافة إلى الاتهامات الشهيرة للبشير ونظامه بالإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية في الإقليم، والتي أصدرت بسببها المحكمة الجنائية مذكرة توقيف في حق الرئيس المعزول و4 من معاونيه.

دعم الإرهاب العالمي

فتح النظام الانقلابي البلاد لكل إرهابيي العالم، وعلى رأسهم زعيم تنظيم القاعدة الإرهابي أسامة بن لادن، الذي تعتبر سنينه في السودان (1992 - 1996) من أنشط فترات عمره، حيث وفر له إخوان السودان المصادر والموارد ليبني تنظيمه وينشره حول العالم أثناء وجوده وبعد خروجه من البلاد.

وكان نظام الإخوان في السودان مشتركاً ومسؤولاً بصورة مباشرة عن هجوم القاعدة على المدمرة الأمريكية «يو أس أس كول» في ميناء عدن اليمني 12 أكتوبر 2000، وقبله الهجمات على السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا 7 أغسطس 1998، وقبلها حاول النظام السوداني اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في السادس والعشرين من يونيو 1995 بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا.

وبحسب الكاتب والسياسي السوداني الدكتور منصور خالد، فإن نظام البشير هو الحكم السوداني الوحيد الذي تعامل بصورة مباشرة مع حكومة جنوب أفريقيا أثناء فترة الفصل العنصري (الأبارتايد)، حيث كان يشتري منها السلاح مباشرة.

هذا غير العلاقات الوطيدة التي ربطت النظام السوداني مع نظيره الإيراني الذي دعمه بكل خبراته في قمع المعارضين وابتزاز الدول.

الفساد باسم الدين

يحتل السودان المرتبة 172 من أصل 180 بلداً في مؤشر مدركات الفساد لعام 2018 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية.

وبحسب الخبراء، تدهورت العُملة السودانية بصورة مريعة منذ أن سمح الرئيس الأسبق جعفر نميري بمشاركة الإخوان بزعامة الترابي في السلطة، مروراً بحكم نظام البشير، حيث هبطت من جنيهين ونصف الجنيه في العام مقابل الدولار في عام 1983، إلى 12 جنيهاً في عام 1989 لحظة انقلاب البشير، إلى 87 ألف جنيه اليوم، بنسبة بلغت 31070.5%.

ووفقاً لتقرير فريق The Sentry المشروع التابع لمنظمة كفاية الأمريكية الصادر في 2017 «فإن المؤسسات الحاكمة في الدولة خاضعة لسيطرة شبكة فاسدة متورطة في أنشطة الإثراء الشخصي وجهار أمني قمعي يهدف إلى حماية مصالح النخبة في البلاد».

ويقول المحلل الاقتصادي كمال عبدالرحمن لـ«الرؤية» إن النظام السابق أسهم بصورة واضحة في تدمير الاقتصاد عبر سياسات مختلة بصورة عامة، وكان النظام يخرج إحصاءات خلال السنوات السابقة غير صحيحة وغير شفافة.

ومع ذلك، يرى إخوان السودان أن دولتهم تمثل الإسلام، وقال أحد قادتهم الدكتور أمين حسن عمر «نحن دولتنا إلهية.. دولة إنسانية، ترتكز على الهدى الإسلامي».

لكن الدولة التي رفعت راية الإسلام، كشفت التقارير الدولية عن أنها لم تكن جادة في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، الشيء الذي سمح بازدهار الأنشطة والشبكات الإجرامية، وصنفت مجموعة العمل المالي (فاتف) السودان بالدولة التي «تعاني خللاً استراتيجياً في التدابير المعنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب».

ويرى مدير مركز الخاتم عدلان للاستنارة، المحلل والسياسي الدكتور الباقر العفيف مختار، أن إخوان السودان أساؤوا للإسلام، وشوّهوا شريعة الله، ونفروا عنها، فكانوا أكبر محنة أصابت السودان في عهوده كافة.

وقال إن ثمرة حكمهم كانت تمزيق السودان شر ممزق، فبعد انفصال الجنوب في عهدهم، تصاعدت دعوات الانفصال في دارفور غربي السودان، وجبال النوبة جنوب غرب، والنيل الأزرق جنوب السودان الجديد، كما تكاثرت الحروب، وانتشر النزوح، وعم الفقر، وانهارت العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية، وتدهورت خدمات الصحة والتعليم، والمياه، واستُبيحت البلاد بواسطة بعض دول الجوار وإسرائيل، بينما هم يستأسدون على شعبهم، ويتمادون في البطش به.

وحذر العفيف الشعوب العربية من الانسياق لدعوات الإخوان، وإلا فإن «هذا هو ما ينتظرها ما لم تعتبر بتجربة السودان».

وفي 13 ديسمبر 2018، خرجت تظاهرات طلابية في مدينة الدمازين جنوبي السودان تندد بغلاء المعيشة، تبعتها أخرى في 19 ديسمبر في مدينة عطبرة شمالي السودان، وخلال ديسمبر كله انطلقت شرارة ثورة شعبية عمّت قرى ومدن وضواحي وبادية البلاد، وانتظمت جميعها تحت شعار واحد «حرية سلام وعدالة.. والثورة خيار الشعب».

بعد 30 عاماً بالتمام والكمال، فطن الشعب أخيراً إلى أنه يعيش في وكر للذئاب والثعالب الماكرة، وأنه يستحق حياة أكثر كرامة.