الاحد - 05 مايو 2024
الاحد - 05 مايو 2024

قراءة في كتاب: تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام

هذا عمل ربما تجب قراءته في حاضر أيامنا، لا سيما أنه يفتح أمام القارئ دروباً من المعرفة الأبستمولوجية، بعيدة كل البعد عن ضيق الأيديولوجيات التي حكمت ذهن المنطقة منذ منتصف الخمسينات وحتى الساعة.

الكتاب الذي بين أيدينا صادر عن المركز الأكاديمي للأبحاث في بيروت، وبنقد ومراجعة الدكتور مصطفى جواد، أما صاحب مقدمته فهو العميد وأستاذ الأجيال الدكتور طه حسين، الذي تتلمذ المؤلف على يديه في القاهرة.

صاحب هذا العمل هو البروفيسور إسرائيل ولفنسون من أصول يهودية تعود إلى جمهورية روسيا البيضاء، وقد درس اللغة العربية على يد الشاعر العراقي الشهير معروف الرصافي، وحاز الدكتوراه من الجامعة المصرية بإشراف الدكتور طه حسين عام 1927.

هذا الكتاب هو أصل أطروحته للدكتوراه، وربما تاريخ تأليفه يشير إلى الخواص التي يتفوق بها على غيره من الكتب المصنفة في الموضوع نفسه، ولا سيما خروجه أو إفلاته من عهود النكبات والنكسات، وكتابته في ظروف تاريخية غير متأزمة، فضلاً عن أن مؤلفه من اليهود العارفين بالموضوع وأبعاده، فإن تتلمذه في الجامعة المصرية على يد عميد الأدب العربي، جعل الكتاب ذا قيمة علمية عالية، على الرغم من مرور قرابة 9 عقود على تأليفه.

توجيهات طه حسين

يكتب العميد في مقدمته للكتاب عن ولفنسون فيقول «كنت أرى فيه عناية خاصة بكل ما يتصل باليهود في عصور السيطرة اليونانية والرومانية على العالم القديم، فرأيت أن أوجه بحثه هذه الوجهة وأشجعه على المضي فيها، ولست أنسى محاضرات تمرينية ألقاها في مثل هذه الموضوعات، تركت في نفسي أحسن ما تترك أعمال التلميذ المجد في نفس أستاذه من الأثر».

ثم ظفر بشهادة الليسانس في الآداب فلم يرُقه من المباحث التي كانت تثار في الجامعة على كثرتها إلا هذا المبحث الذي يتصل دائماً باليهود، وهو تاريخ اليهود في بلاد العرب قبل الإسلام وإبان ظهوره.

ويكمل الدكتور طه حسين في موضوعية تاريخية ودقة بحث علمية فيقول «والموضوع نفسه قيم جليل الخطر بعيد الأثر جداً في التاريخ الأدبي والسياسي والديني للأمة العربية».

ويضيف «وليس من شك في أن هذه المستعمرات اليهودية قد أثرت تأثيراً قوياً في الحياة العقلية والأدبية للجاهليين من أهل الحجاز».

وفي نهاية مقدمته يتكلم بلغة العالم الواثق فيقول «وإذا كان لي أن أتمنى للدكتور ولفنسون شيئاً فإنما أتمنى له مخلصاً أن يمضي في عنايته بهذه الناحية من حياة اليهود، والصلة بينهم وبين الأمة العربية بعد الإسلام، كما عنى بها قبل الإسلام، مهتدياً بهدى العلم الصحيح، الذي لا يعرف ممالأة ولا مشايعة، ولا يرى للعالم إلا غرضاً واحداً مقدساً هو السعي إلى الحق والجد في الوصول إليه».

ما بعد انتهاء الخصومة السياسية

يعن لنا أن نتساءل «وما الذي يضيفه مثل هذا البحث المتضمن بين دفتي الكتاب للحياة المعاصرة اليوم؟» أغلب الظن أن هناك حاجة واقعية للنظر إلى الجذور التراثية الإنسانية لسكان الشرق الأوسط والجزيرة العربية وحوض البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي يدفع الجميع للخلاص من مرحلة العداء التاريخي والاستلاب القدري لهذا العداء إن جاز التعبير، وهذا أمر في حد ذاته على درجة كبيرة من الأهمية لو يعلم الناظر.

يخبرنا البروفيسور ولفنسون في تصدير كتابه أن للبحث في تاريخ يهود الجزيرة العربية أهمية عظيمة في حل المشكلات التي يتخبط فيها كثير من الناس، وإماطة اللثام عن لهجات العرب ودياناتهم وعاداتهم، لما بين اليهود والعرب من رابطة الدم، ولما بين اللغة العبرية واللغة العربية من التشابه والاقتراب.

يؤكد البروفيسور ولفنسون في كتابه أن اللغة العبرية بوصفها من أمهات اللغات السامية كانت شائعة قبل نشوء بني إسرائيل وظهورهم في العالم، إذ كانت لغة أهل فلسطين الكنعانية، ولغة كثير من القبائل في طور سيناء وشرق الأردن، وكان من أهم تلك الأمم بنو أدوم وعمون وموآب، وقبائل عماليقية ومديانية وإسماعيلية.

ثم ظهرت بطون بني إسرائيل بين هذه الأقوام في طور سيناء وأطراف الحجاز وانتشرت منها إلى الأقاليم الأخرى، وبقيت هذه اللغة صاحبة السلطان والنفوذ مدة طويلة، إلى أن ظهر تأثير إحدى اللهجات الكنعانية وهي الآرامية، فأخذت اللهجات العبرية والكنعانية الأصلية تضمحل مع التغيرات السياسية، إلى أن أصبحت أغلب بطون فلسطين وسوريا والعراق وطور سيناء تتكلم باللهجات الآرامية.

يخبرنا المؤلف أنه ما إن انتهت الخصومة السياسية بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبطون يثرب، حتى شرع اليهود ينظرون بعيون الإكبار والاحترام إلى جيوش المسلمين التي كانت تغمر كالسيل أقطار العالم ونواحيه، وكانت هذه الجيوش قد قضت على سلطة الدولة الرومية في أقاليمها القاصية والدانية، تلك الدولة التي ملأت تاريخها بحوادث الظلم والتعسف وإهراق الدماء مدة طويلة من الزمان.

يذكر ولفنسون أن اليهود في أغلب مدن العراق كانوا يخرجون لاستقبال جيوش المسلمين بالحفاوة والإكرام، لأنهم كانوا يؤثرونهم على غيرهم، إذ يرون فيهم قوماً يؤمنون بإله موسى وإبراهيم.

ولقد ازدادت هذه الروابط متانة مع امتداد الزمن حتى دخل اليهود في جيوش المسلمين ليناضلوا معهم في أقاليم الأندلس، وفي كل الأحوال ينبغي ألا يغيب عن البال أن الخسارة القليلة – على حد تعبير ولفنسون – التي لحقت يهود بلاد الحجاز ضئيلة بالقياس إلى الفائدة التي اكتسبها العنصر اليهودي من ظهور الإسلام، فقد أنقذ الفاتحون المسلمون آلافاً من اليهود كانوا منتشرين في أقاليم الدولة الرومية، وكانوا يقاسون ألواناً شتى من العذاب، زد على هذا أن اتصال اليهود بالمسلمين في الأقاليم الإسلامية كان سبباً في نهضة فكرية عظيمة عند اليهود، بقيت آثارها في تاريخ الآداب العربية والعبرية زمناً طويلاً.

يضيق المسطح المتاح للكتابة عن استعراض هذا العمل الكبير، غير أن الرسالة من ورائه هي أن التاريخ ليس أسود وأبيض كما يخيل للبعض.. وأن الحقيقة تحتاج إلى كثير من الجهد والموضوعية في البحث عنها من أجل أن تعلو أبداً ولا يعلو عليها أي شيء بالمرة.